«خطأ أم اختبار».. إدراج الحوثيين يكشف حدود القرار العراقي وعدم استقلاليته

رغم الضجة الواسعة التي أثارها إدراج مليشيا الحوثيين الإرهابية وحزب الله اللبناني ضمن قائمة تجميد أموال الكيانات الإرهابية في العراق، سارعت اللجنة المختصة إلى إصدار بيان توضيحي مفاجئ، قالت فيه إن إدراج الاسمين كان “خطأ غير مقصود” بسبب نشر القائمة قبل تنقيحها، مؤكدة أن موافقة العراق اقتصرت على الكيانات المرتبطة بداعش والقاعدة فقط، وأن ما ورد خلاف ذلك سيتم تصحيحه في الجريدة الرسمية.

لكن هذا “التوضيح السريع” لم يُنهِ الجدل، بل فتح الباب لأسئلة أكبر حول طبيعة الضغوط التي دفعت بغداد للتراجع، وكيف سيؤثر ذلك على موقع العراق الإقليمي وسط صراع النفوذ بين واشنطن وطهران.

وما زاد المشهد حساسية أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وجّه بإجراء تحقيق عاجل لتحديد المسؤولين عن الخطأ، في خطوة فهمها البعض بأنها محاولة لاحتواء الغضب المحلي والخارجي، بينما قرأها آخرون كإشارة إلى وجود صراع داخلي بين جهات تدفع العراق نحو مسار أكثر استقلالية، وأخرى تعمل ضمن الأجندة الإيرانية ولا تسمح بالمساس بأي من أذرعها الإقليمية.

امتحان استقلال القرار العراقي
الضجة التي رافقت “حادثة القائمة” جاءت في لحظة سياسية دقيقة، كان يُنظر فيها إلى إدراج الحوثيين، ولو شكلياً، على أنه أول مؤشر على توجه عراقي جديد نحو التعامل بجدية مع المليشيا العابرة للحدود والمرتبطة بطهران.

إلا أن التراجع السريع أوحى بأن العراق لا يزال محكوماً بمعادلة دقيقة تجعل كل قرار سيادي عرضة لاعتبارات تتجاوز المصلحة الوطنية، وتخضع لحسابات النفوذ الإيراني، وتوازنات “البيت الشيعي”، وضغط الفصائل المسلحة، ومخاوف التصعيد الداخلي.

ويرى مراقبون أن “خطأ النشر” لم يكن مجرد سهو إداري، بل تسريبٌ لنية سياسية أو مبادرة كانت تُناقش داخل غرف القرار، قبل أن يتم إسقاطها تحت ضغط جهات نافذة تخشى أي خطوة قد تُفسّر كاستهداف مباشر لوكلاء طهران في المنطقة.

بين واشنطن طهران
التحقيق الذي وجّه به السوداني جاء، وفق دبلوماسيين، لطمأنة الولايات المتحدة التي تضغط على بغداد لإثبات أنها ليست مجرد امتداد سياسي أو اقتصادي لإيران.

واشنطن، التي تربط جزءاً من دعمها للعراق بقدرته على ضبط نفوذ المليشيات، كانت تنتظر خطوة ملموسة تجاه الحوثيين، الذين تعتبرهم جزءاً من منظومة إيرانية تهدد الملاحة والأمن الإقليمي.

لكن في المقابل، لا يمكن لبغداد تجاهل أن إدراج الحوثيين أو حزب الله في قوائم الإرهاب العراقية سيُفسَّر في طهران كضربة مباشرة لأحد أهم أذرعها الاستراتيجية. ولذلك، جاء التراجع كحل وسط يمنع انفجار توتر داخلي مع إيران ووكلائها.

وبين الطرفين، يجد العراق نفسه مجدداً في مربع “الدولة المعلّقة” التي تتحرك ضمن هوامش محدودة، وتُجبرها توازنات الخارج على إعادة حساباتها في كل خطوة.

هشاشة المؤسسات
يرى محللون أن ما جرى لم يُغلق الملف بل فتح أزمة جديدة، إذ بدا واضحاً أن القرار العراقي حين يلامس خطوط النفوذ الإيراني يتحول إلى قضية ملغومة تتداخل فيها السياسة والأمن والمصالح العميقة.

ويشير خبراء إلى أن رد الفعل السريع، سواء من اللجنة أو الحكومة، كشف هشاشة المؤسسات في مواجهة “الفيتو غير المعلن” الذي تفرضه القوى المسلحة الموالية لإيران، وأن بغداد تدرك جيداً أن أي خطوة تستهدف الحوثيين أو حزب الله أو الفصائل العراقية قد تجرّ البلاد إلى توتر داخلي لا ترغب الحكومة في خوضه.

وتذهب مصادر دبلوماسية إلى أن واشنطن كانت تراقب بدقة هذه الحادثة، وأن إدراج الحوثيين، ولو مؤقتاً، ربما مثّل اختباراً لقياس مدى استعداد بغداد للمضي في خطوات قد تصطدم بالمصالح الإيرانية.

فالولايات المتحدة تربط بشكل متزايد دعمها السياسي والاقتصادي للعراق بقدرته على ضبط الفصائل ووقف تمدد النفوذ الإيراني، فيما ترى إيران في العراق عمقاً استراتيجياً لا يمكن التفريط به.

وفي هذا السياق، قد يصبح ما حدث جزءاً من لعبة أكبر بين القوى الدولية، تُستخدم فيها بغداد كساحة اختبار لقياس قدرة كل طرف على التأثير داخل النظام السياسي العراقي.

الموقف الإيراني
أما طهران، فمن المرجح أنها ستتعامل مع الواقعة وفق معادلة مزدوجة تقوم على “التهدئة الظاهرية والضغط الباطني”، فهي لا تريد صداماً مفتوحاً مع حكومة السوداني في هذا التوقيت، خصوصاً مع تصاعد العقوبات الأمريكية، لكنها في الوقت نفسه لن تقبل بأي خطوة قد تمس أحد أهم أذرعها الإقليمية كالحوثيين.

ولذلك يرى مراقبون أن إيران ستسعى إلى تعزيز قبضتها على الفصائل العراقية، وإعادة ترتيب مراكز القرار داخل المؤسسات لضمان عدم تكرار واقعة مشابهة مستقبلاً.

ورغم عدم صدور موقف رسمي حتى اللحظة من الحوثيين، إلا أن التوقعات تشير إلى أن رد الذراع الإيرانية في اليمن، سيأتي في إطار التصعيد الإعلامي المعتاد والرسائل السياسية غير المباشرة، دون الذهاب نحو مواجهة فعلية مع بغداد، فالجماعة تعرف جيداً أن الساحة العراقية تمثل رئة مالية وسياسية لا يمكن خسارتها، وأن أي قطيعة مع العراق ستنعكس مباشرة على مصادر تمويلها وشبكاتها العابرة للحدود.

أمام كل هذه التفاعلات، يبرز السؤال الجوهري، هل انتهت الأزمة أم بدأت فعلياً؟ فالتراجع الرسمي أغلق الجانب الإداري من الحادثة، لكنه فتح الباب لمشهد أعقد يرتبط بمستقبل القرار العراقي نفسه.

فالعراق اليوم يقف بين خيارين، إمّا الاستمرار كدولة تعمل ضمن هوامش ضيقة تحددها توازنات واشنطن وطهران والفصائل، أو السعي نحو استقلال نسبي يجعل قراراته قابلة للتنفيذ، لا مجرد بيانات تُنشر ثم تُسحب.

ويقول خبراء إن مستقبل هذا الملف، وما إذا كان العراق قادراً على اتخاذ موقف مستقل من المليشيات المرتبطة بإيران، يعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية، قدرة الحكومة على ضبط الفصائل داخلياً، مدى استعداد الولايات المتحدة لتوفير دعم يُمكّن بغداد من اتخاذ خطوات أكثر جرأة، وإلى أي حد ستسمح إيران للعراق بالمناورة دون اعتباره خروجاً عن خطها السياسي.

وحتى الآن، تبدو السيادة العراقية محاصرة في هامش ضيق، وأي قرار يمسّ وكلاء إيران يظل مرشحاً للتحول إلى أزمة سياسية داخلية، كما حدث في “قضية الخطأ الشهير” في قائمة الإرهاب.

زر الذهاب إلى الأعلى