اليمن في 2023… وغياب القيادات
ما يميّز الانهيار اليمني الذي تسارعت وتيرته مع استيلاء الحوثيين (جماعة أنصارالله) على صنعاء في 21 أيلول – سبتمبر 2014، غياب أي شخصيات قيادية قادرة على لعب دور في إيجاد مخارج من وضع مأساوي.
يجسّد هذا الغياب مجلس القيادة الرئاسي الحالي الذي تشكل في نيسان – أبريل الماضي برئاسة الدكتور رشاد العليمي، وهو شخصية محترمة تمتلك شبكة علاقات واسعة. لكنّ رئيس مجلس القيادة الرئاسي لم يستطع، أقلّه إلى الآن، صنع الفارق مع السنوات التي كانت فيها “الشرعية” في تصرّف رئيس مؤقت هو عبدربّه منصور هادي لا يعرف شيئا في السياسة والاقتصاد وإدارة مؤسسات الدولة.
مع حلول السنة 2023، تبدو الحاجة قبل كلّ شيء إلى شخصيات يمنية لها حضورها تستطيع تسمية الأشياء بأسمائها والابتعاد عن الوعود الفارغة، شخصيات تعرف اليمن وتعرف أنّ هناك ما يمكن عمله وهناك ما يستحيل عمله. بكلام أوضح، الحاجة أكثر من أي وقت إلى شخصيات يمنيّة تعرف جيدا أنّه ما كان في استطاعة الحوثيين وضع يدهم على صنعاء لو كان هناك جيش قوي يتصدّى لهم. قد يكون هذا السبب الذي دفع عبدربّه إلى الانتهاء من الجيش اليمني مع تركيز خاص على ألوية الحرس الجمهوري التي كانت بقيادة أحمد علي عبدالله صالح، وهي ألوية خاضت حروبا عدّة مع التمرد الحوثي بين 2004 و2010.
يوجد فراغ في اليمن. هذا الفراغ يذكّر بوجود رجال كان لهم دورهم في مراحل معيّنة، خصوصا في عهد علي عبدالله صالح بين صيف 1978 وشتاء العام 2012. بين هؤلاء الرجال الذين يفتقدهم اليمن اليوم الراحل يحيى المتوكل الذي قضى في حادث سير في مثل هذه الأيّام من العام 2003. يظلّ المتوكل بين الأصدقاء الذين لا يغيبون عن البال مهما مرت السنوات. تشعر دائما بحضورهم وتشعر خصوصا بمدى الفراغ الذي تركوه على كلّ صعيد، في اليمن خصوصا. لا يمرّ يوم إلّا ويتذكره أصدقاؤه على الرغم من مرور عشرين عاما على وفاته.
لم يكن المتوكل مجرّد صديق غير عادي تعرفت إليه منذ زيارتي الأولى لصنعاء أواخر العام 1986 في مناسبة افتتاح سد مأرب الجديد الذي بناه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان. كان العقيد يحيى ثم العميد ثم اللواء يحيى عام ذاك محافظا لإب، وهي منطقة خضراء لا مثيل لها في كلّ أنحاء اليمن. ما لبث أن شغل بعد ذلك مناصب عليا كثيرة من بينها موقع وزير الداخلية في إحدى أصعب المراحل التي مرّ فيها اليمن، مرحلة حرب صيف العام 1994. كان ذلك قبل سنوات طويلة من حصول الانفجار الأخير قبل اثني عشر عاما وهو انفجار جعل اليمن يتشظّى وجعل مصيره في مهبّ الريح.
كنت شاهدا خلال وجود المتوكل في وزارة الداخليّة كيف عمل على تضميد الجروح التي نجمت عن الحرب التي تسببت بها رغبة الحزب الاشتراكي الذي كان يحكم الجنوب، قبل الوحدة في العام 1990، بالعودة إلى أيام الانفصال. كنت شاهدا على الجهود التي بذلها المتوكل من أجل الحؤول دون تجاوزات وتعديات في حق أهل الجنوب في عدن بعد خسارة الحزب الاشتراكي الحرب التي خلفت حالا من الفوضى لم تخرج منها المحافظات الجنوبية، إلى يومنا هذا.
لم يكن المتوكل مجرّد سياسي عادي يعرف بدقة ما يدور في داخل اليمن وفي المنطقة وقد ربطته صداقات بكثيرين من القادة والمسؤولين العرب. كان أيضا رجلا ينتمي إلى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. كان يعرف باريس جيدا، كذلك واشنطن وكان يعرف خصوصا لندن التي كنا نمضي فيها ساعات طويلة نسير في شوارعها وحدائقها من دون ملل.
قبل أسابيع قليلة من الحادث الذي تعرّض له مطلع العام 2003، كان المتوكل في لندن. التقيته في فندق اعتاد النزول فيه. سرنا معا في حديقة كبيرة جميلة ذات تلال ومنعرجات. طوال ساعتين كاملتين، لم يتوقف عن الحديث مبديا خوفه على اليمن وعلى مستقبل اليمن. كان أكثر ما يقلقه التحولات التي تمرّ فيها شخصية علي عبدالله صالح الرئيس وقتذاك. كان يعرف تماما أنّ الرجل يمرّ في مرحلة في غاية الحساسيّة بعدما زادت شهية الإخوان المسلمين، ممثلين بحزب التجمع اليمني للإصلاح، إلى السلطة. كذلك، كان يعرف أنّ الرئيس اليمني الراحل دخل في مرحلة جديدة من الصراعات السياسية وصار في مواجهة مباشرة مع الإسلام السياسي. ذكرته تصرّفات علي عبدالله صالح في العام 2002 بالأيام الأخيرة للرئيس إبراهيم الحمدي الذي اغتيل في العام 1977 في ظروف غامضة يعتبرها كثيرون في اليمن أكثر من واضحة.
في حديقة ريجنتس بارك، كان لقائي الأخير والطويل مع المتوكّل، ابن العائلة اليمنيّة العريقة التي لعبت دورا في كل المراحل التي مرّ فيها البلد. كان للعائلة حضور، إن في عهد الإمامة وإن بعد “ثورة 26 سبتمبر 1962″، وهي ثورة أدت إلى قيام نظام جمهوريّ انتهى عمليا مع خروج علي عبدالله صالح من السلطة.
تمرّ الذكرى الـ20 لغياب المتوكل، الرجل الاستثنائي بكل معنى الكلمة، ويبقى سؤال في البال. يتعلّق السؤال هل كان رجال من طينة المتوكل ومستواه قادرين على عمل، ولو القليل، لمنع الانفجار الكبير الذي وقع في العام 2011 والذي دمّر البلد تدميرا كلّيا. تسبب الانفجار في نزول الإسلام السياسي إلى الشارع من أجل الانقلاب على عبدالله صالح. لم يدرك قادة الانقلاب خطورة النتائج التي ستترتب على ما فعلوه معتقدين أنّ من السهل ركوب موجة “الربيع العربي” في اليمن، وهو بلد التعقيدات التي لا تحصى قبل أي شيء آخر.
قد يكون العزاء الوحيد لرجل لم تفارقه يوما ابتسامته الهادئة أنّه غاب ولم يشهد ما آل إليه بلد حمل طوال قرون اسم “المملكة اليمنيّة المتوكّلية”…
تعليق واحد