في ذكرى العار.. كيف ابتلع الحوثيون اليمن؟
احتفل الحوثيون في الحادي والعشرين من سبتمبر الجاري بمرور ست سنوات على ما دأبوا على وصفه بـ”الثورة”، التي أوصلتهم إلى السيطرة على مؤسسات الدولة اليمنية في 2014، في الوقت الذي أحيا فيه المناهضون للانقلاب الحوثي ما أطلقوا عليه “يوم النكبة”.
وكما هو الحال مع كل عام يستذكر فيه اليمنيون تفاصيل وملابسات اجتياح الميليشيات الحوثية لصنعاء، تجدد الجدل على مواقع التوصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية بين أنصار الرئيس الراحل علي عبدالله صالح والأحزاب اليسارية والقومية، التي ساهمت في إسقاط نظامه، حول الطرف الذي يتحمل المسؤولية في وصول جحافل الحوثيين من صعدة إلى دار الرئاسة في العاصمة من دون أي مواجهة تذكر.
حرب عبثية
بدأت أولى ملامح تحويل الصراع بين الدولة اليمنية والحوثيين إلى مادة للتوظيف السياسي في الصراع الموازي، الذي كان مستعرا بين صالح وأحزاب المعارضة، التي تكتلت في تجمع سياسي أطلقت عليه “اللقاء المشترك” والمتشكل قبل اندلاع حروب صعدة بعام واحد، وتحوّل إلى أداة أرّقت النظام السابق في 2006 بعد أن دعمت مرشحا رئاسيا في مواجهة مرشح المؤتمر الشعبي العام.
وتحول التوافق الجزئي بين أحزاب المعارضة حول مشروعية حروب صعدة التي بدأت في العام 2004 إلى مادة للنزاع السياسي مع ارتفاع حدة الخلافات بين حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب “اللقاء المشترك”، والتي بلغت ذروتها على وقع الانتخابات الرئاسية، حيث دعمت فيها أحزاب المعارضة المرشح فيصل بن شملان في مواجهة الرئيس صالح.
وفي هذه الفترة المحتدمة في المشهد السياسي تسلل مصطلح “الحرب العبثية” إلى مفردات الخطاب السياسي، التي بدأت تستخدمها صحف المعارضة في وصف الحرب الدائرة بين الجيش والميليشيات الحوثية، التي خسرت مؤسسها في حرب صعدة الأولى في 2004 وشارفت على النهاية في الحرب الثانية عام 2005 قبل أن تجد طوق نجاة في الصراعات السياسية بين حزب المؤتمر وأحزاب المعارضة التي تزامنت مع اندلاع حرب صعدة الثالثة، التي امتدت حتى 2006.
وانقسم الخطاب الإعلامي لأحزاب “اللقاء المشترك” في تلك الفترة ما بين من يرى أن حروب صعدة ظالمة تستهدف مكونا يمنيا وهو الأمر الذي دأبت عليه الأحزاب ذات الخلفيات الفكرية الزيدية المنبثقة عن الفكر الإمامي في اليمن، الذي ينتمي إليه الحوثيون مثل حزب الحق واتحاد القوى الشعبية وحتى الأحزاب اليسارية مثل الحزب الاشتراكي.
وفي خضم ذلك فضل قسم آخر من أحزاب المعارضة المنضوية تحت “اللقاء المشترك” وصف حروب صعدة بـ”الحروب العبثية” واتهام صالح بعدم الجدية في حسمها أو استخدامها كأداة لابتزاز المكونات السياسية المعارضة بأن البديل له سيكون الحوثي.
وفي كل الأحوال فقد شكلت الوساطات، التي لعبتها بعض القوى الاجتماعية والسياسية في إيقاف حروب صعدة منعطفات حاسمة مع توظيف أحزاب المعارضة لملف النزاع مع الحوثي في إضعاف نظام صالح، إضافة إلى بروز الخلافات الداخلية في بنية النظام والرجل النافذ علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع آنذاك، الذي أشرف على ملف صعدة، أسبابا وجيهة في فشل الدولة اليمنية في حسم الصراع العسكري مع الحوثيين في الحروب الثلاث الأولى.
وتم توظيف كل تلك الأمور قبل أن يدخل عامل جديد أكثر خطورة وتأثيرا في منتصف الحرب الرابعة، التي اندلعت في يونيو 2007 وتمثل ذلك في الوساطة القطرية، التي تؤكد العديد من المعطيات أنها كانت حاسمة في إعادة الروح للميليشيات الحوثية ومساعدتها في استعادة عافيتها من خلال الدعم المالي تحت ستار إعادة إعمار صعدة، الذي أطلقته الدوحة.
وإلى جانب ذلك ظهرت مساع لتفكيك البنية العسكرية والقبلية المعادية للحوثيين عبر المال القطري، وهو الأمر الذي تبيّنت نتائجه في النسخة الخامسة من الحرب في مطلع العام 2008 وغيرت موازين القوى لصالح الحوثيين إلى الأبد.
وعندما اندلعت الحرب السادسة بين الجيش والحوثيين كانت نتائج الوساطة القطرية، التي أعلن صالح عن فشلها، قد بلغت مرحلة يصعب عكس نتائجها، كما أن عام 2009 شهد وصول الصراع بين حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب “اللقاء المشترك” المعارضة أسوأ مراحلها.
قبلة حياة للحوثي
دفع هذا الأمر صالح لطلب المساعدة السعودية في الحرب، غير أن تداعيات الأزمة مع المعارضة ساهمت في تشتيت جهود الدولة، التي انهمكت في صراع سياسي انتهى مطلع 2011 إلى انضمام اليمن لقائمة الدول، التي شهدت احتجاجات شعبية (الربيع العربي) أصبحت فيها خارطة الاصطفافات أكثر تعقيدا بعد انضمام الحوثيين لها إلى جانب أحزاب اللقاء المشترك.
وقد اعتبر ذلك المنحى أكبر اختراق سياسي حوثي منذ تأسيس الجماعة، التي عانت من العزلة السياسية والاجتماعية قبل أن يتم الاعتراف بها طرفا جديدا يطالب بإسقاط النظام من قلب العاصمة صنعاء.
ومثلت قبلة الحياة التي منحتها أحزاب “اللقاء المشترك” للحوثيين بداية مرحلة جديدة في مسيرة الجماعة، التي ظهرت شعاراتها في صنعاء بشكل علني، بعد أن كانت جريمة يعاقب عليها القانون، وتلا ذلك مشاركة الحوثيين في مؤتمر الحوار الوطني في العام 2013 بعد أن قدمت الحكومة آنذاك اعتذرا رسميا لهم عن الحروب الست.
واتفق كثيرون على أن ذلك المنعطف اعتبر نكاية في الرئيس علي عبدالله صالح وحزبه الذي تصدر الحرب ضد الحوثيين بصفته رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة قبل إجباره على التخلي عن السلطة بموجب المبادرة الخليجية.
وساهم تحريض الخطاب الإعلامي لأحزاب اللقاء المشترك، التي هيمنت على مقاليد الدولة بعد إسقاط نظام الرئيس صالح، ومحاولة إظهاره كطرف وحيد مسؤول عن الحرب ضد الحوثيين في دفعه لمحاولة فتح قنوات مع الميليشيات، التي باتت موجودة سياسيا وشعبيا في صنعاء.
وبرزت تصريحات عديدة لقادة في المعارضة تشيد بالحوثيين كطرف سياسي أصيل تعرض للإقصاء خلال فترة حكم علي عبدالله صالح، كما علّق القيادي البارز في حزب الإصلاح حميد الأحمر في مقابلة تلفزيونية على إكمال الحوثيين سيطرتهم على محافظة صعدة أثناء الاحتجاجات الشعبية في 2011 بأنه عمل “ثوري يندرج في إطار إسقاط نظام صالح، وبمثابة عودة صعدة إلى أحضان الوطن بحسب وصفه”.
كما ردد صادق الأحمر شيخ قبيلة حاشد كلاما مشابها لما قاله شقيقه في حوار مع قناة الجزيرة وصف فيه الحوثيين بـ”المضطهدين الذين تعرضوا للظلم في فترة حكم صالح”، كما اعتذر عن مشاركة قبيلته في الحروب ضد الحوثيين واعتبر ذلك نتيجة للتضليل الذي مارسه صالح.
ولعب شقيقهم الثالث حسين الأحمر دورا مشابها من خلال تحوله إلى وسيط بين الحوثيين والسلفيين في صعدة، غير أن مواقف آل الأحمر التصالحية مع الحوثيين تغيرت بشكل حاد بعد قرابة عامين نتيجة زحف الحوثي إلى معاقلهم القبلية في محافظة عمران شمال صنعاء، والتي انتهت بالسيطرة عليها وتفجير منازلهم.
وأظهرت تسجيلات مسربة مباركة صالح خلال تلك الفترة لعملية إذلال آل الأحمر من قبل الحوثيين انتقاما من مواقفهم تجاهه في 2011 ودورهم الرئيسي في تأجيج الاحتجاجات المناهضة له، إضافة إلى الاتهامات التي تدور حول تورطهم في محاولة اغتياله في حادث تفجير دار الرئاسة الشهير قبل عشر سنوات.
وتؤكد المعلومات أن صالح أصيب بالهلع بعد تقدم الحوثيين نحو مركز محافظة عمران بعد أن ظن أن الزحف الحوثي سيقتصر على السيطرة على معاقل آل الأحمر، حيث أرسل وفدا من قيادة حزبه لزيارة الرئيس عبدربه منصور هادي، الذي تولى السلطة في 2012، وتحذيره من أن سيطرة الحوثيين على محافظة عمران يعني سقوط صنعاء.
غير أن مقربين من هادي أقنعوه، بحسب المصادر مطلعة، من أن صالح يريد الزج به في صراع مع الميليشيات الحوثية، وهو ما أعقبه قيام الرئيس هادي بزيارة شهيرة إلى مركز محافظة عمران بعد سيطرة الحوثيين عليها وإسقاط أكبر معسكراتها، اللواء 310 مدرع، وقتل قائده حميد القشيبي في يوليو 2014، وظهر على القناة الرسمية اليمنية متحدثا من عمران بأن “المحافظة عادت إلى أحضان الجمهورية”.
هيكلة أم تفكيك
تشير مصادر عديدة إلى أن صالح سعى بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء إلى فتح قنوات اتصال معهم، بعد أن ساوره ما يشبه اليقين أن اجتياح العاصمة بات مسألة وقت فقط، وهو ما حدث فعلا بعد ذلك بأشهر حين دخلت ميليشيات الجماعة العاصمة في 21 سبتمبر 2014 وأحكمت سيطرتها على مؤسسات الدولة ومعسكرات الجيش، التي انهارت دون مقاومة تذكر. وهنا تدور الكثير من التكهنات حول سبب هذه الانهزامية، التي واجه بها الجيش الميليشيات الحوثية.
وترجح المعطيات فشل هادي في التحكم بالجيش، الذي رفض المواجهة بعد أن أصبح الحوثيون على بوابة صنعاء، في حين كانت الفرصة متاحة لوقف زحفهم في عمران من خلال دعم مقاومة قبيلة حاشد، التي قادها آل الأحمر أو إسناد اللواء حميد القشيبي، الذي تصدى للحوثيين في معسكره وقتل بطريقة بشعة كما كشفت التقارير المسربة عن مقتله.
ولكن كل محاولات إيقاف الحوثي في عمران لم يتم إسنادها من قبل الجيش، الذي كان يأتمر في ذلك الحين بأمر هادي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع محمد ناصر أحمد، الذي ينحدر من محافظة الرئيس نفسها (أبين)، وهو القائد العسكري، الذي تدور الكثير من علامات الاستفهام حول دوره الذي سهل سيطرة الحوثيين على عمران بعد ظهوره برفقة القائد الحوثي أبوعلي الحاكم.
ويتهم الكثير من ناشطي حزب الإصلاح (وهم إخوان مسلمون) صالح في كل مرة يدور الحديث عن الانقلاب الحوثي بتسليم معسكرات الجيش للجماعة، بينما يعتبر أنصار الرئيس الراحل، الذي قتلته الميليشيات الحوثية في ديسمبر 2017 أن صالح لم يكن يمتلك أي صفة رسمية بعد مغادرته السلطة.
كما أن الجيش اليمني تعرض في العام 2012 لعملية عرفت بـ”إعادة الهيكلة” تم خلالها إقالة كل القيادات العسكرية المقربة من صالح بما في ذلك أقاربه وتعيين آخرين موالين للرئيس هادي ووزير دفاعه آنذاك، والذي أشرف مباشرة على عملية الهيكلة وتم تكريمه من قبل “تنسيقية شباب الثورة” بدرع نظير جهوده في إعادة هيكلة الجيش وإضعاف سيطرة صالح.
وتبدو هذه العملية التي وصفها أنصار صالح بتفكيك الجيش أحد عناصر التعقيد في المشهد اليمني، هي التي سهلت للحوثيين اجتياح صنعاء، حيث أضعفت هذه العملية من سيطرة الرئيس الراحل بالفعل على مؤسسات الجيش والأمن، غير أن هذه التغييرات لم تسمح للرئيس الجديد ووزير دفاعه بالسيطرة على هذه المؤسسات بشكل حقيقي وفاعل.
وخلّف ذلك فجوة كبيرة بين وحدات الجيش وقيادته سمحت للحوثيين بالتسلل من خلالها إلى مفاصل الدولة وتنفيذ الانقلاب مستفيدة من الركام الهائل من الأحقاد بين صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام من جهة، وأحزاب “اللقاء المشترك” من جهة أخرى، والتاريخ الطويل من التوظيف السياسي لملف صعدة.
المصدر: العرب اللندنية