انتفاضة في معقل الحوثيين.. عندما يصرخ المواطنون في صعدة طالبين العدالة
في مشهد نادر يكشف عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون تحت سيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية، خرج المئات من أبناء محافظة ريمة في وقفات احتجاجية غاضبة أمام مقر إدارة الأمن الخاضع لسيطرة المليشيا في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي للجماعة ومنبعها الأول.
الاحتجاجات، التي اندلعت إثر مقتل ثلاثة مواطنين من أبناء ريمة خلال الأيام الماضية، تمثل صرخة ألم ويأس من مواطنين لم يعودوا قادرين على الصمت أمام القتل الممنهج والإفلات من العقاب الذي أصبح سمة بارزة في المناطق الخاضعة للمليشيات.
تأتي الاحتجاجات، وفق مراقبين، في سياق متصاعد من الجرائم التي ترتكبها عناصر المليشيا الحوثية بحق المدنيين، حيث قُتل عابد عبده ناجي الحفصي بدم بارد أمام منزله برصاص أحد المسلحين الحوثيين، في انتهاك صارخ لحرمة الحياة والمسكن.
أما وليد أحمد علي قائد، فقد أُطلق عليه النار أثناء أداء عمله في توزيع المواد الغذائية بمديرية منبه، في مشهد يعكس انعدام الأمان حتى للعاملين في المجال الإنساني.
والأكثر وحشية كانت جريمة اقتحام منزل عبده صالح دغيش في مديرية سحار وقتله داخله على يد مسلح حوثي، في استباحة كاملة لحرمات المواطنين وحياتهم.
ما يزيد من فداحة هذه الجرائم ويفاقم غضب المحتجين هو أن الجناة معروفون بالأسماء، وأن بعضهم لا يزال يتحرك بحرية تامة دون أي إجراءات عقابية أو محاسبة قانونية.
هذا الواقع المرير يكشف عن انهيار كامل لمنظومة العدالة في المناطق الخاضعة لسيطرة المليشيا، ويعكس تهاونًا متعمدًا من قبل قيادات الحوثيين في حماية المجرمين المنتمين إليها، مما يفتح الباب واسعًا لتكرار الانتهاكات والجرائم بحق أبناء المحافظات الأخرى الذين يجدون أنفسهم مضطرين للتواجد في صعدة للعمل أو الحاجة.
المحتجون، الذين رفعوا أصواتهم أمام مقر الأمن المفترض أن يحميهم، أكدوا رفضهم القاطع لما وصفوه بتقاعس مليشيا الحوثي عن القيام بواجباتها القانونية تجاه الجرائم المرتكبة.
ويقول المحتجون إن تقاعس مليشيا الإرهاب الحوثية ليس عفويًا أو ناتجًا عن ضعف إداري، بل هو سياسة ممنهجة تعكس طبيعة حكم المليشيات الذي يقوم على الترهيب والقمع واستباحة دماء المواطنين، خاصة أولئك القادمين من محافظات أخرى والذين يُنظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية لا يستحقون الحماية أو العدالة.
الاحتجاجات في قلب معقل الحوثيين تكتسب أهمية استثنائية، فهي تكشف أن جرائم المليشيا لم تعد مقتصرة على المناطق البعيدة عن سيطرتها المباشرة، بل امتدت لتطال حتى أولئك المتواجدين في صعدة نفسها، مما يدل على أن حالة الفوضى والإفلات من العقاب قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.
تآكل في شعبية الحوثي
ويقول المراقبون، إن الوضع المأساوي في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي يعكس تآكلًا في شعبية المليشيا حتى في مناطق نفوذها التقليدية، حيث بدأ المواطنون يدركون أن وجود هذه الجماعة المسلحة لا يعني الأمن أو الاستقرار، بل يعني مزيدًا من القتل والظلم والاستبداد.
معاناة اليمنيين تحت حكم المليشيات الحوثية تتجاوز حوادث القتل الفردية، فهي تشمل منظومة كاملة من الانتهاكات المنهجية التي تطال كل جوانب الحياة.
قائمة من الجور الحوثي
الاعتقالات التعسفية أصبحت ممارسة يومية، حيث يُختطف المواطنون من منازلهم أو أماكن عملهم دون أوامر قضائية أو تهم واضحة، ويُزج بهم في سجون سرية لا تخضع لأي رقابة قانونية أو إنسانية.
الاختفاء القسري للناشطين والمعارضين أصبح أداة رئيسية لإسكات أي صوت معارض، حيث تختفي عائلات بأكملها عن عشرات الأشخاص دون معرفة مصيرهم أو مكان احتجازهم.
التجنيد الإجباري، وخاصة للأطفال، يمثل جريمة حرب متواصلة ترتكبها المليشيا بحق جيل كامل من اليمنيين.
آلاف الأطفال يُنتزعون من مدارسهم وعائلاتهم ويُزج بهم في جبهات القتال، حيث يُستخدمون كوقود رخيص لحروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
هذه الجريمة المستمرة لا تدمر حاضر هؤلاء الأطفال فحسب، بل تسرق مستقبلهم وتحرم البلاد من طاقاتها الشابة التي كان يمكن أن تساهم في بنائها وتطويرها.
مصادرة الممتلكات والأراضي أصبحت ممارسة شائعة، حيث تستولي المليشيا على منازل وأراضي المواطنين بحجج واهية أو دون أي حجة على الإطلاق.
كثير من العائلات وجدت نفسها بلا مأوى بعد أن استولت عناصر المليشيا على منازلهم وطردتهم منها، في انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان، وهي سياسية حوثية تهدف إلى إفقار المواطنين وجعلهم معتمدين كليًا على المليشيا، مما يسهل السيطرة عليهم وإخضاعهم.
فرض الإتاوات والضرائب غير القانونية على التجار والمواطنين أصبح مصدرًا رئيسيًا لتمويل المليشيا.
نقاط التفتيش المنتشرة على الطرقات تحولت إلى مراكز لابتزاز المسافرين والتجار، حيث يُفرض عليهم دفع مبالغ مالية تحت مسميات مختلفة، وإلا تعرضوا للاعتقال أو مصادرة بضائعهم. هذه الممارسات أدت إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية، مما فاقم معاناة المواطنين الذين يكافحون أصلًا من أجل البقاء.
قطع المرتبات لموظفي الدولة منذ سنوات طويلة يمثل كارثة إنسانية واقتصادية.
مئات الآلاف من الموظفين وعائلاتهم يعيشون في ظروف قاسية دون مصدر دخل ثابت، مما اضطر الكثيرين منهم إلى بيع ممتلكاتهم أو الاستدانة لتوفير لقمة العيش لأطفالهم.
المليشيا تستخدم المرتبات كورقة سياسية للابتزاز والسيطرة، حيث تدفع لبعض الفئات الموالية لها بينما تحرم الآخرين، مما خلق طبقية جديدة قائمة على الولاء السياسي والمذهبي.
احتكار المواد الأساسية وبيعها بأسعار مضاعفة يعكس نهج المليشيا في استغلال حاجة الناس لتحقيق مكاسب مالية ضخمة.
التجار المقربون من المليشيا يحتكرون السلع الأساسية كالدقيق والوقود والغاز المنزلي، ثم يبيعونها بأسعار خيالية تفوق قدرة معظم المواطنين، مما خلق أزمة إنسانية حادة جعلت ملايين اليمنيين يعيشون على حافة المجاعة.
تدمير البنية التحتية والخدمات الأساسية يكمل الصورة القاتمة، حيث انهارت الخدمات الصحية والتعليمية وتدهورت شبكات الكهرباء والمياه، مما جعل الحياة اليومية للمواطنين صراعًا مستمرًا من أجل البقاء.
فرصة لمجلس القيادة
في ظل هذا الواقع المرير، تمثل احتجاجات أبناء ريمة في صعدة فرصة استراتيجية حقيقية للمجلس الرئاسي اليمني لتحويل غضب المواطنين إلى حراك منظم يهدف إلى إنقاذهم من براثن المليشيات الإرهابية.
هذه الفرصة تتطلب استراتيجية متكاملة تبدأ بتوثيق كل الانتهاكات والجرائم التي ترتكبها المليشيا بشكل احترافي ومنهجي، بحيث يتم جمع شهادات الضحايا وعائلاتهم بالصوت والصورة، وبناء قاعدة بيانات شاملة تتضمن أسماء الضحايا والجناة وتفاصيل الجرائم المرتكبة، مع الحرص على توثيق كل حالة وفق المعايير القانونية الدولية التي تسمح باستخدامها لاحقًا في الملاحقات القضائية.
ويدعو مراقبون إلى أهمية دعم الحراك الشعبي السلمي ضد المليشيا من خلال التواصل مع قادة الرأي والوجهاء في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، وتقديم الدعم اللوجستي والإعلامي للحركات الاحتجاجية السلمية، مع الحرص على توفير الحماية والدعم لعائلات الضحايا والمحتجين.
ويطالب مراقبون باستقطاب المنشقين عن الحوثيين وتوفير ملاذ آمن لهم سيساهم في تفكيك المليشيا من الداخل، كما أن دعم القبائل المتضررة في صعدة ومحيطها سيخلق ضغطًا داخليًا متصاعدًا على قيادات المليشيا ويدفعها نحو الانهيار التدريجي.
ويدعو محللون سياسيون وزارة الدفاع اليمنية بتبني استراتيجية ذكية تركز على دعم الانشقاقات الداخلية في صفوف المليشيا بدلًا من التصعيد العسكري المباشر، تشجيع العناصر المحلية المجبرة على القتال من خلال حملات استمالة وضمانات أمنية، توفير عفو عام مشروط للعناصر غير المتورطة في جرائم كبرى، كل ذلك سيساهم في إضعاف المليشيا من الداخل وتفكيك بنيتها التنظيمية.





