الحجر الصحي العام يضاعف أوجاع الفقراء

”أنا شخص إيجابي، ولكن الآن، ولأول مرة منذ 20 عاما لم أفتح ورشتي”، يقول عبدالكريم (48 عاما) الذي يقطن في حي التحرير في تونس العاصمة. ويضيف “استمرار الوضع هكذا ينذر بكارثة بالنسبة لي، لست موظفا في القطاع العام أتلقى مرتبا نظير جلوسي في المنزل، من أين لي أن أؤدي معاليم كراء الورشة والمنزل؟”.

هو ليس الوحيد الذي يواجه هذه المحنة، فالملايين في تونس الذين يعملون بأجور يومية يواجهون المصاعب نفسها. فقرار الحجر الصحي العام يعني أنهم سيحرمون من أي دخل. ومن المرجح أن الكثير منهم سيواجهون شحّا في الطعام في الأيام القادمة.

ويتابع عبدالكريم “سيطردني صاحب المنزل والورشة الذي يعول على معاليم الكراء بدوره لإعالة عائلته.. سأكون في صفوف الفقراء بعد فترة وجيزة”.

فقراء جدد
لا يختلف عاقلان على أنّ الطريقة الوحيدة التي أثبتت جدواها في احتواء انتشار كورونا تكمن في عدم اختلاط الناس ببعضهم البعض، هذا ما أثبتته ولاية ووهان الصينية، بؤرة الوباء، التي تمكّنت وحدها من بين دول العالم من القضاء على الوباء من خلال الحجر المنزلي والقدرات الطبية، وهذا ما أثبته السيناريو الإيطالي الكارثي الذي تجاهل هذه المقاربة في الأسابيع الأولى، وها هو الشعب الإيطالي يدفع أثمانا باهظة، والمشاهد المأسوية من هناك للجثث والمصابين أبرز دليل. في الدول العربية أيضا لن يوقف اجتياح كورونا سوى الحجر المنزلي.

ينذر الوضع في تونس بتزايد نسبة الفقر وإضافة فقراء جدد للقائمة. والفقراء الجدد هم بالضرورة من الطبقة الوسطى التي أنهكها التخبط الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي.. هذه الطبقة التي تضررت بشدة وخسرت كل مدخراتها خلال السنوات الماضية تتكون من صغار الموظفين في القطاعين العام والخاص إضافة إلى أصحاب المشاريع الصغرى وعمال المصانع والمهن الحرة، وإذا ما أضفنا إليهم العاطلين عن العمل والطبقات الهشة التي تعيش على هامش المجتمع نجد أن الفقراء الجدد المتضررين من أزمة كورونا مع الفقراء سيشكلون ثلثي المجتمع.

ولا تعتبر تونس استثناء عربيا، إذ أعلنت لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا “إسكوا”، الأربعاء، أن 8.3 مليون شخص في المنطقة العربية مهددون بالفقر بسبب فايروس كورونا، مُشيرة إلى أنه من المتوقع أن يزداد أيضا عدد الذين يعانون من نقص في التغذية بحوالي مليوني شخص. ولفتت “إسكوا” إلى أن ما مجموعه 101.4 مليون شخص في المنطقة سيصنفون في عداد الفقراء، وسيبلغ عدد الذين يعانون من نقص في التغذية حوالي 52 مليونا.

وأشار البيان نفسه إلى أنه من المتوقع أن يطال غياب الحد الأدنى للحماية الاجتماعية في بعض البلدان العربية والتغطية غير الشاملة لنُظُم الحماية، الفئات الأكثر عرضة للمخاطر، التي ستفتقر إلى أبسط مكونات الصمود خلال تفشّي الوباء.
ووفقا لصندوق النقد العربي، ومقره الإمارات العربية المتحدة، فإن حوالي 40 في المئة من العمالة العربية تعمل في القطاع غير الرسمي. في حين تقول منظمة العمل الدولية إن النسبة الحقيقية تزيد على 60 في المئة.

ووفقا لصندوق النقد العربي، فإن نسبة رواد الأعمال في قطاعات التوظيف تزيد على 80 في المئة، ويقصد بهم أصحاب المشروعات الذين لا يتلقون رواتب من جهة توظيف.

وبحسب المصدر نفسه، يعطّل الوباء سلاسل الإمداد العالمية، ويؤثر على الأمن الغذائي في العديد من البلدان العربية بسبب اعتمادها الكبير على الواردات الغذائية، فيما تخسر الدول العربية حوالي 60 مليار دولار سنويا بسبب فقدان الأغذية وهدرها.

ونقل البيان عن الأمينة التنفيذية لإسكوا، رولا دشتي، “ستكون عواقب هذه الأزمة شديدة على الفئات المعرّضة للمخاطر والعاملين في القطاع غير النظامي، ممّن لا يستفيدون من خدمات الحماية الاجتماعية ولا من التأمين ضد البطالة”.

وأضافت “لا بد من أن تنفذ الحكومات العربية استجابة طارئة وسريعة من أجل حماية شعوبها من الوقوع في براثن الفقر وانعدام الأمن الغذائي، نتيجة لتداعيات وباء كورونا”.

وشددت على ضرورة أن تكون الاستجابة الإقليمية داعمة للجهود الوطنية، داعية إلى “تعبئة الموارد والخبرات لحماية الفقراء والأشخاص المعرّضين للمخاطر”.
وقال إحصاء لمؤسسة إيبسوس إن انتشار فايروس كورونا يظهر حالات واضحة من عدم المساواة، أبرزها أن نسبة كبيرة من الناس أصبح بإمكانهم العمل من البيت، بينما الفقراء إما عليهم أن يعملوا رغم الخطورة أو يخسروا أعمالهم.

ووجدت الدراسة الأميركية أن من لديهم تعليم ودخل أقل من المرجح أن يستمروا في الذهاب إلى أماكن عملهم، مما يعرضهم إلى الإصابة بالفايروس.

ووفق الدراسة، فإن من المفارقات أن من لديهم موارد أكثر وهم أقل عرضة للإصابة بالفايروس هم من يشتكون من تضرر صحتهم العاطفية.

وأوضحت الدراسة أن الأغنياء والأثرياء حافظوا على وظائفهم عبر العالم الافتراضي أما الطبقة العاملة والفقراء فهم أكثر عرضة لفقدان وظائفهم.

وترتبط الشواغل المتعلقة بالأمن الوظيفي والقدرة على دفع الفواتير بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي. وهناك أيضا ارتباطات على أساس الأصل العرقي والعمر والمنطقة في البلد وما إذا كانوا يعيشون في بيئات حضرية أو غير حضرية، ولكن يبدو أن الدافع هو الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

وخلصت الدراسة إلى أنه كلما ارتفع دخل الأسرة كلما ارتفعت نسبة العمل عن بعد.

لقمة عائلية
انتشر قبل أيام مقطع فيديو لشاب أردني ألقت عليه الشرطة القبض وهو في طريقه إلى العمل. ويظهر الشاب وهو يقاوم الشرطة ويصرخ أنه يريد العمل لتوفير احتياجات أسرته. وسلط المشهد الضوء على الأزمة التي يعيشها الملايين في الدول العربية، ممن يعملون في وظائف بأجر يومي، أو ترتبط باستمرار دورة رأس المال وفتح المحال.

وتتوالى القصص لعمال بسطاء يصرون على الخروج إلى العمل رغم إجراءات حظر التجول، ويشاركون معاناتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويقولون إنهم يفضلون العدوى وربما الموت على أن يظلوا بلا عمل. وفي لبنان وجّه وزير الداخلية اللبناني محمد فهمي لدى إعلانه الخطّة التنفيذية لإلزام المواطنين الحجر المنزلي من أجل احتواء فايروس كورونا رسالة مفادها “سننزلق نحو المجهول، احموا أنفسكم وأولادكم ومجتمعكم. الوضع مخيف، ولو أكلنا لقمة زيتون”.

ويقول معلق على كلام الوزير “نقدّر له حرصه على صحة اللبنانيين، ولكن ماذا عن فايروس الجوع الذي اجتاح منازل الفقراء وبات يهدّد أطفالهم؟ ألا يشكّل خطرا على صحّتهم؟” ويسأل “من قال لكم إنّ هؤلاء قادرون على تأمين حتّى كسرة الخبز والزيتون؟ هل تصفون للأطفال والرضع الخبز والزيتون أيضا؟”.

ومع ذلك، ستكون الخسائر البشرية التكلفة الأكثر أهمية وهي التي قد تؤدي إلى التفكك المجتمعي. يمكن أن يقرر أولئك الذين تُركوا بلا مال أو عمل مهاجمة أولئك الذين هم في وضع أفضل.

وكدليل على ذلك شهدت منطقتا التضامن والمنيهلة التابعتان لمحافظة أريانة التونسية، الاثنين، حالة احتقان واسعة في صفوف الأهالي، على خلفية تأخر توزيع المساعدات الاجتماعية الظرفية والاستثنائية التي أقرتها الدولة لفائدة العائلات محدودة الدخل لمساعدتها على مواجهة تبعات اجراءات مواجهة فايروس كورونا، حيث أقدم مواطنون على قطع الطريق وحرق العجلات فيما حاول آخرون اقتحام مقر معتمدية المنيهلة.

وقال الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل محمد علي البوغديري، إن على الحكومة تسريع الخطى لترجمة هذه المساعدات على أرض الواقع درءً للاحتجاجات.

وحذّر البوغديري من شبح التوتر الإجتماعي بسبب تباطؤ وصول المساعدات الظرفية التي أعلن عنها رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ إلى مستحقيها خاصة إلى المواطنين الذين يعانون من الفقر والبطالة والخصاصة.

ودعا البوغديري الحكومة إلى الإسراع لتوفير المواد الغذائية الأساسية للطبقات الفقيرة بكميات. وأضاف إنه “لا معنى للحجر الصحي في ظل الخصاصة والفقر والجوع الذي يعاني منه عديد المواطنين”.

انفجار اجتماعي
حذّر رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك سليم سعد الله من خطر حصول انفجار اجتماعي خلال الفترة المقبلة في حال استمر التباطؤ الحكومي في تقديم المساعدات، قائلا “لقد وعدوا الناس بأنهم سيقدمون لهم المساعدات حتى يحترموا تدابير الحجر الصحي العام لمنع انتشار العدوى لكن الأيام تمضي دون وصول تلك المساعدات وهذا سيتسبب في تفجر الاحتقان”.

ومن جهته توقع الخبير الإجتماعي والإقتصادي رضا الشكندالي وقوع توترات اجتماعية في مثل هذه الأزمات حتى في أقوى دول العالم، مشيرا إلى أن العالم يمر باختبار صعب في ظل انتشار فايروس كورونا.

ويقول خبراء عالميون إنه إذا خرج المزيد من المواطنين من الأزمة الحالية دون مال ووظائف والرعاية الصحية، وإذا أصبح هؤلاء الناس يائسين وغاضبين، فقد تصبح مشاهد مثل هروب السجناء أو النهب شائعة.

وإذا اضطرت الحكومات إلى استخدام القوات شبه العسكرية أو العسكرية لقمع أعمال الشغب أو الهجمات على الممتلكات، فقد تبدأ المجتمعات في التفكك. وبالتالي، ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي وربما الوحيد الذي تركز عليه السياسات الاقتصادية متعلقا بمنع الانهيار الاجتماعي.

وتبرز في هذه الحالة قيمة الأسر في المجتمعات العربية التي تقدم لأعضائها دعما معنويا وماديا. كما تظهر هذه الأزمة دور المجتمع المدني في التخفيف من حدتها.

وتشتد عزيمة جمعيات خيرية وشباب متطوعين، لمؤازرة المتضررين من التدابير الاحترازية المفروضة، لا سيما من خسروا أعمالهم، ويجدون صعوبة في إعالة عائلاتهم.

وفي تونس، واكبت جمعية “ناس الليل” (خاصة)، المعروفة بتكفلها خاصة بالمشردين عبر توفير أغطية وملابس لهم، إضافة إلى توفير بعض الوجبات، ما تعانيه بعض الأسر الفقيرة من صعوبات في توفير قوت أبنائها، خاصة مع تفاقم الوباء وانتشاره في البلاد، وذلك عبر مبادرات لجمع مساعدات وتقديمها لتلك العائلات.

ووفق رئيس الجمعية معز بوخريص، فإن “هذه المبادرة تدخل في إطار المد التضامني لمجابهة وباء كورونا، ولإعانة وإغاثة العائلات المحتاجة إلى الدعم المادي في مثل هذه الظروف الصعبة”. ويقول بوخريص، “من خلال جمعيتنا فكرنا في هؤلاء (المحتاجين)، وخاصة في من كان مصدر رزقه من أعمال يومية فقط، وهو يتأثر اليوم وبشكل مباشر بالأزمة التي نعيش على وقعها، ما أجبره على البقاء في البيت دون توفير قوت يومه”.

ويقول أحمد الدربالي، متطوع عن الهلال الأحمر التونسي، “ننخرط في هذه الحملة عبر الموارد البشرية، فنحو 40 عضوا من فرقنا متمركزون هنا لاستقبال السلع وتنظيمها ووضعها في علب صحية، ليتم بعد تنسيق محكم النظر في مسالك توزيعها وإيصالها إلى كل من يحتاجها”.

ويضيف “هدفنا هو تلك العائلات التي تواجه صعوبات كبيرة، ونحن من خلال هذه الحركة التطوعية نريد أن نبعث برسالة مفادها أننا سنقف مع بلادنا، وهذا واجبنا، ولطالما كنا في الهلال الأحمر رائدين في مجال الإغاثة، وسنكون في الخدمة دائما”.

وتقول منوبية، ناشطة مدنية ومنسقة أيضا، “اليوم نسعى جميعا إلى وضع اليد في اليد.. ونأمل ألا نصل مرحلة تنقطع فيها كل المستلزمات، لا سيما مع الوضع الذي نعيشه.”

المصدر: العرب

زر الذهاب إلى الأعلى