مبارك والإخوان.. عقود من الخديعة السياسية المتبادلة

لا يُفوّت التنظيم الإخواني أية فُرصة تؤكد حضوره في المشهد، وأمام حدث مثل وفاة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، تفرض الحسابات التنظيمية نفسها، لتنتج ازدواجية في الموقف بين الرسمي والإعلامي، إذ خيَّم الصمت المطبق على قيادة الإخوان الموزعة بين إنجلترا وتركيا وقطر ومصر، فيما تصدّر المشهد خطاب إعلامي غير رسمي، وآخر قاعدي يتدحرج عبر اللجان الإلكترونية والقواعد. وكلاهما لا يطرح موقفا إخوانيا رسميًا من مبارك.

يستحق الأمر التوقف عنده بما يُجلي الأهداف من وراء هذه الازدواجية، مع الإلحاح الإخواني تسويقًا لأن الإخوان هُمْ أوَّل دعاة الثورة ضد مبارك، وأن محمد مرسي كان زعيمًا لثورة 25 يناير 2011، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون لقيادة التنظيم الرسمية موقفها الواضح مِنْ وفاة مَنْ تصفه بأنه “الدكتاتور الذي خلعه الإخوان”، لكن صمت مكتب الإرشاد يغري بالبحث في طبيعة نظرة الإخوان للرئيس الراحل. تلك النظرة التي أثمرت ثلاثين عاما من حكمه، ومثلها من الازدهار التنظيمي على كافة المستويات.

ما إن تم الإعلان الرسمي لنبأ الوفاة حتى وَجّهت الماكينة التنظيمية الإخوانية كافة أذرعها الإعلامية الرسمية ولجانها الإلكترونية وقواعدها، نحو استثمار خبر الوفاة للنيل من مُبارك، والربط بينه وبين النظام الحالي، وعقد مقارنات متنوعة بين موقف الحكومة من وفاته وموقفها من وفاة مرسي.

حسب مصدرٍ تنظيمي مطلع، فإن حالة من الارتباك سادت بين قيادات التنظيم الدولي في ما يخصّ التعليق الرسمي على رحيل مبارك. ويُرجِع المصدر السبب في ذلك إلى التباين بين سعي التنظيم للتهدئة مع بعض رموز نظام مبارك واستهدافه فتح قنوات اتصال معهم، كونهم شركاء في الخصومة للنظام الحالي، ويُمكن استثمار مواقف بعضهم بما يدعم حالة الاصطفاف التي يُنادي بها التنظيم حاليا.

تخدير القواعد
قرّر الإخوان، رسميا، تجاهل التعليق، بل تجاوزوا ذلك إلى إصدار تصريح باسم المتحدث الإعلامي للتنظيم طلعت فهمي، يُعلِّق فيه على إعدام المتهمين في قضية استهداف الكنائس، وهو الحدث الذي تم قبل 48 ساعة من وفاة مبارك. وإلى جواره كان الإصدار الرسمي هو رسالة الأسبوع التي وجهها التنظيم نحو المتاجرة بالقضية الفلسطينية انطلاقا من رفض صفقة القرن.

حتى كتابة هذه السطور كانت نوافذ التنظيم الإلكترونية الرسمية ملتزمة بقرار تجاهُل وفاة مبارك، وتبنت التسويق للقيادي الراحل محمد مرسي باعتباره “الرئيس الرباني النموذج الذي مات ثابتًا”.

تتمثل الأزمة التي تواجه قيادة التنظيم الرسمية، في قِطاعاتٍ واسعة من القواعد التنظيمية في الداخل والخارج تم شحنها على مدار سنوات ضد حكم مبارك، ومن بعده المجلس العسكري ثم النظام الحالي، وبحسب ما يعتقدون فإن نهاية مبارك عبرة يجب على قياداتهم التصريح بها.

فَرَض هذا الاحتجاج القاعدي عودةً جديدة لما يُسمى بـ”المكتب العام للإخوان”، وهو يتبع لجنة الإدارة العليا، الجناح التنظيمي الذي أشرف على إدارة عامي ما بعد ثورة 30 يونيو 2013، وكان على رأسه عضو مكتب الإرشاد محمد كمال الذي قُتل في مواجهات مع الشرطة قبل ثلاثة أعوام. وقام نائب المرشد الهارب محمود عزت بإصدار قرار بوقفه ومجموعته، بعدما حمّله مسؤولية إنشاء “اللجان النوعية – التنظيم المسلح”، رغم أن عزت كان المُشرف على هذه الإدارة وخطتها.

تدريجيًا في الداخل والخارج، أحكمت القيادة التنظيمية قبضتها على مقاليد التنظيم، وبقي لمجموعة كمال بعض حضورِِ إعلامي عبر بيانات تُغازل عواطف القواعد المشحونة ضد الدولة كل حين، حتى اختفت تماما من المشهد، ومثلت وفاة مبارك الفرصة المواتية للظهور من جديد للعب على حالة الشحن القاعدي.

وفي حالة الموقف من موت مبارك، لا توجد لدى قيادة التنظيم الرسمية أزمة في عودة المكتب العام للظهور من جديد، حيث أنه سيقدم خطابا حادا يتسق مع رغبات القواعد، ولا يُحمِّل التنظيم رسميّا أيّا من تبعاته.

الخطاب الرسمي والجهادي
تصدرت البيان عبارات تُغازل أماني المخدّرين بفعل التنظيم ومناهجه، موجِّهةً لهم الوعود والأماني “نوقنُ تمام اليقين أن الظلم إلى هلاك لا محالة، وأن لكل ظالم نهاية، ولكننا قد عاهدنا الله أن نسير على درب المصلحين، وأن نقاوم الظلم والظالمين، آملين تحقيق أسباب النصر في الدنيا”.

هذا الخطاب الذي لا يُمثِّل التوجه الرسمي التنظيمي المُعلَن، لا يتعارض مُطلقًا مع الخطاب غير المُعلن، ولهذا أصبح هو السائد في تسويق اللجان الإلكترونية للإخوان، ليتوارى الخطاب السياسي التنظيمي لصالح الخطاب الجهادي، وليتراجع رموز التنظيم الرسميين، لتحل محلهم الوجوه الجهادية التي تتحالف معه ولكنه لا يتحمل فاتورة مواقفها.

ظلت لهجة متصدري مشهد التنظيم الرسمي والمتحالفين أقل حدة، كونها تتسق مع أهداف حركة الإخوان محليا ودوليا خلال العام الحالي، والتي تستهدف بحسب نسختها “إعادة رأب الصدع مع مكونات المشهد السياسي، وفي مقدمتهم أنصار النظام السابق”، وهو ما يعتمد في تنفيذه على حركة القواعد داخل المجتمع من ناحية، وفتح قنوات اتصال مع شخصيات كانت محسوبة على نظام مبارك، وتم تهميشها حاليًا من ناحية ثانية، وهذا طبعًا إضافة إلى محاولات إعادة العلاقات مع أطياف المعارضة.

الصمت الإخواني الرسمي، وخِطاب التخدير القاعدي، ومِثله خطاب يدعي التعفّف سياسيا، جميعها لا تعبر عن كامل حالة الاستثمار الإخواني لوفاة مبارك، إذ تبقى مساحات الاستثمار الإعلامي هي الأوسع، كونها الأكثر انتشارا وقدرة على حمل رسائل إخوانية مُتعددة، ولهذا تم توجيهها منذ إعلان الوفاة إلى التفاعل مع الحدث بما يدعم مواجهة التنظيم الحالية للنظام المصري وبعض دول الخليج العربي، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

على مدار ثلاثة عقود هي عمر حكم مبارك، عاش الإخوان عصرهم الذهبي، وخلال عقدين ونصف كانت الاجتماعات التنظيمية تتحاشى مجرد ذكر الرئيس أو مبارك، إذ كان المُتَرسخ في وعي كافة القيادات، أنه “خط أحمر” لا ينبغي تجاوزه حتى لا يتم استفزازه، وهذا الموقف نابع من إيمان قيادات مكتب الإرشاد وقت تولي مبارك، باعثه أن معرفة طبيعته وشخصيته تعد المقدمة الحقيقية لمعرفة كيفية اتخاذه قراراته، وهل إمكانياته تؤهله لاتخاذ قرارات مصيرية أو حيوية أم لا؟

عملت على ذلك لجان تنظيمية عدة، وانتهت إلى أن شخصيته مترددة وغير حاسمة وتميل إلى الحلول الوسط وإلى تأجيل المشاكل وترحيلها والتجزئة في مواجهتها والبت فيها، ويقولون إن تلك خصائص لصيقة به من النشأة والتربية العسكرية، وأنه لا يتحرك لاتخاذ قرارات حيوية إلا حين يشعر أن وجوده هو ذاته أو مركزه قد يتعرض لتهديد حقيقي وخطير، ووفقا لهذا التحليل يستبعدون إمكانية إقدامه على اتخاذ قرار ضربة شاملة للإخوان.

في ظل هذا التصور، كتب التنظيم قاعدة العلاقة معه حسب لجنة التأريخ التنظيمي. وخلال الفترة الفاصلة بين عامي 1981 و2011 كانت العلاقة بين جماعة الإخوان في مصر ونظام حسني مبارك تستند إلى معادلة ضمنية، وهي إتاحة المجال أمام الحركة للقيام بدورها الديني – الدعوي، والاجتماعي – الخيري، مقابل عدم تهديدها لبقاء النظام سياسياً. وهذه المعادلة هي التي حكمت تصريحات كافة مرشدي التنظيم الموجهة إلى الرئيس.

في ديسمبر 2004، نشرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية، حوارًا مع مبارك وجه فيه اتهامات قاسية للإخوان. وفي معرض رد المرشد السابع محمد مهدي عاكف، على هذا الاتهام قال “الرئيس مبارك يؤمنُ بالتعددية السياسية، واختلاف الرؤى، وهو في النهاية رئيس مصر، الذي نفخر به جميعاً حكومة وجماعة وأحزابا”.

هذه المواقف الرسمية من أكبر قيادة تنظيمية، لم تكن يوما نابعة من قناعاتٍ بشخص مبارك، وإنما قراءة لما أسماه التوثيق التنظيمي استراتيجية مبارك في التعامل مع المعارضة الإسلامية، والتي حددتها لجان التنظيم بأنها استندت إلى مقومين أساسيين.

الأول إحداث نوع من التوازن بين المعارضة العلمانية التي تم تحجيمها في عهد الرئيس الراحل أنور السادات والمعارضة الإسلامية. والثانية التفرقة داخل المعارضة الإسلامية بين جناحيها المعتدل والعنيف.

وعبْر هذا الفهم عمل الإخوان على اللعب مع نظام مبارك في كل المساحات والساحات باستثناء التعرض له شخصيا أو أيا من أفراد عائلته أو مؤسسته “الجيش”.

استراتيجية الخديعة
سطّر مصطفى مشهور، رجل التنظيم القوي في مرحلة الثمانينات، في بداية التسعينات من القرن الماضي رؤية تنظيمية، حملت استراتيجية التنظيم خلال فترة حكم مبارك، وتم توزيعها على هياكل التنظيم الإدارية مطلع التسعينات.

وحسب تقييم الجهاز السياسي خلال عقد التسعينات، تذكر وثيقة حملت عنوان “الإخوان المسلمون والنظام المصري الحاكم على مدى التسعينات”، أن الاستراتيجية التي صاغها مصطفى مشهور كانت محكومة بضابطين في التنفيذ.

الضابط الأول هو الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة التي تعتمد الحوار مرتكزاً على الحجة والبيّنة، مستمدين من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولأن الدعوة إلى الله مجرد وسيلة خادمة لأهداف التنظيم، فإن الوثيقة تشرح فوائدها نصّا كالتالي؛ “وقد تمكنت الجماعة من خلال هذا الأسلوب الدعوي الملتزم أن تصل إلى الساحات العديدة، والمواقع الكثيرة والتجمعات المختلفة، وأن تكسب ثقة والتفاف العديد من القوى والنخب حولها”.

أما الضابط الثاني، فهو تجنب الصدام ما دام الأمر في حدود الفروع، ولا يصل إلى مستوى المبدئيات وقد نجحت الجماعة في تفويت الفرصة على النظام الذي يتسم بالحمق والجهل وقصر النظر حيث سعى في أكثر من موقف لجر الإخوان إلى الصدام.

مبارك فرصة الإخوان
في إطار هذه الاستراتيجية وضوابطها، اعتمد التنظيم آليات تحققها، ويرصدها مركز الأبحاث التنظيمي “ميديا للدراسات والأبحاث”، والذي كان يعمل تحت إشرافٍ مباشر من نائب المرشد خيرت الشاطر خلال الفترة من 2010 إلى 2013.

من أهم هذه الآليات، التركيز على القضايا الصغرى والمحدودة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية، والتركيز على مدخل الخدمات، وحل المشكلات الصغرى والمحدودة المرتبطة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين، وعن طريقها دخل الإخوان من بوابة النقابات المهنية بوصفها من أهم مؤسسات المجتمع المدني في مصر على الإطلاق، علاوة على التدرج والتنوع في مستويات الحركة والنشاط.

ويبدأ ذلك من الإرشاد الديني والنصح والوعظ داخل المساجد والزوايا، أو التزامن بين الأنماط المختلفة، والسعي إلى الانتشار في مؤسسات الدولة ونشر أفكار الجماعة بها، واختراق أو دخول مجالات جديدة وقطاعات مهمة في الدولة، وكان قطاع الاقتصاد ومنه القطاع المصرفي أهم الأمثلة الواضحة على ذلك، وتواصل الأجيال بين الشيوخ والشباب الجماعة، وتعددية مصادر التمويل عبر جملة المشروعات والشركات التي أنشأتها الجماعة، إضافة إلى القيام بحملات لجمع التبرعات الداخلية والخارجية.
وسعت جماعة الإخوان إلى خلق قاعدة اقتصادية متنامية، تتوازى معها شبكة من المؤسسات الخدمية والإعلامية المساندة، وامتلاك القدرة الفائقة على الانتقال السريع من الإطار الخاص إلى العام ومن السياق النوعي الفئوي إلى المجتمعي الجماهيري، وتطوير الوسائل والمناهج بما يتناسب مع كل مرحلة، وتطوير الهيكل الإداري والبحث عن الشرعية القانونية للجماعة.

عند هذا الحد يطرح الواقع سؤاله الأساسي، وهو هل حقًا كَرِهَ تنظيم الإخوان وقادته الرسميين في الداخل والخارج الرئيس الأسبق حسني مبارك؟

بالتأكيد تقودنا المعطيات السابقة إلى أن عصر مبارك منح للإخوان كل الفرص، لإحداث نقلة نوعية في هياكل وحركة وانتشار واقتصاد التنظيم على كافة المستويات، وهو ما تم على الرغم من توصيف نظام مبارك للإخوان بأنّهم جماعةٌ محظورة.

وبالرجوع للاتفاق الذي أعلنه عضو مكتب الإرشاد السابق، محمد سعد الكتاتني، على إحدى القنوات الخاصة إبان الثمانية عشر يومًا التي شهدها ميدان التحرير عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011 وأفضت إلى تنحي مبارك، نكتشف أن الكتاتني أعلن أن التنظيم وافق على خارطة الطريق التي طرحها نائب الرئيس عمر سليمان (في ذلك الوقت)، ولم يكن منها تنحية مبارك عن منصبه.

مناورات 25 يناير
كان الإخوان يعون جيدا أن استمرار الرئيس مُبارك وقتها حتى نهاية فترته، يمثل فرصة لإعدادٍ أكثر دقة لتمكين يدوم، وهو ما تم جزء كبير منه أثناء حكم مبارك وتحت سمعه وبصره.

وعقب هذا الإعلان أصدرت القيادة التنظيمية تعميما لغرفة عمليات الميدان التنظيمية، والتي كان على رأسها أسامة ياسين، حمل مطالبةً للقواعد بمغادرة الميدان، وهو ما بدأ يحدث مساء 1 فبراير 2011، لولا وقوع الأحداث المشهورة بـ”موقعة الجمل”، فتغيرت مجريات أمور كثيرة.

أخيرًا كان كاتب هذه الأسطر شاهد عيان على موقف قيادات مكتب الإرشاد المُغازِل للرئيس الأسبق مبارك، وأهمها برقية التعزية في حفيده، والتي قُمتُ بصياغتها باسم المرشد السابع مهدي عاكف في مايو 2009، وشملت الرئيس وعلاء مبارك وحرمه وعائلة راسخ (جد الفقيد لوالدته).

وفي 28 مارس 2010 أرسل محمد بديع، المرشد الثامن، برقية تهنئة إلى الرئيس عقب عودته من ألمانيا بعد رحلة علاجية، جاء فيها “السيد رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك.. نهنئ سيادتكم بسلامة العودة إلى أرض الوطن؛ بعد أن مَنَّ الله عليكم بنعمة الشفاء، داعين الله عز وجل أن يحفظ مصر وأهلها من كل سوء، وأن يجمع أبناء الوطن جميعًا قيادة وشعبًا على خير ما يحب ربنا ويرضى”.

تحولت هذه المواقف المُعلنة إلى النقيض، بمجرد أن وجد تنظيم الإخوان فرصة للانقضاض على الرئيس الراحل، أملًا في أن يرثوا تركته، ليبلغوا بها تمكينا ساهم في صناعة أدواته مبارك شخصيًا.

المصدر: العرب

زر الذهاب إلى الأعلى