السعودية والوحدة والانفصال
يقبع اليمنيون – شماليون وجنوبيون – منذ بداية هذه الحرب في دائرة جدليّة حامية الوطيس، وهم يفسّرونَ الموقف السعودي حيال الوحدة اليمنية كل من زاوية مشروعه السياسي. جدلية: “السعودية ضد انفصال الجنوب، والسعودية مع الوحدة اليمنية”. فالشماليون يرون في موقفها النظري السياسي والإعلامي، وفي الواقع العملي على الأرض أنها لا تفضّلُ فصلُ الجنوب عن شماله وإعادة الوضع الى ما قبل وحدة عام 1990م، على الأقل بالمدى المنظور، ويستشهدون بذلك بعدة شواهد منها المرجعيات الثلاث: المبادرة الخليجية ومخرجات حوار صنعاء وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالأزمة اليمنية، وهذه المرجعيات التي صاغت معظم بنودها الرياض تؤكد قطعاً على الحفاظ على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، كما يعتبرون أن موقفها المتغاضي عن بناء القوة الشمالية المضطردة بالجنوب، وفي تساهلها مع الحكومة بعدم الجديّة بتنفيذ بنود الرياض، هي رسائل أخرى من المملكة عن عدم رغبتها بالتجاوب مع النزعة الجنوبية التحررية.
وفي الوقت عينه ينظر الجنوبيون إلى موقفها بأنه يشير الى ميل نحو كفة مشروعهم الاستقلالي، خصوصا موقفها بالأشهر الأخيرة، مستشهدين بحرصها إلى إخراج “اتفاق الرياض” إلى النور، وهو الاتفاق الذي انتزع فيه المجلس الانتقالي الجنوبي اعترافا دوليا كلاعبٍ وممثلا للمشروع الجنوبي وصاحب اليد العسكرية والجماهيرية الطولى بالجنوب، فضلا عن موقفها غير المتحمس للحديث عن الوحدة اليمنية قياسا بما كان عليه بداية الحرب، حين كانت تجهر بخطاب وحدوي صارخ، كان الغرض منه فقط هو طمأنة الشمال على الوحدة وعدم استفزازه بأمر حساس كهذا في هكذا وظروف، وذلك لخطب ودّه إلى جانبها بحربها ضد الحركة الحوثية وقوات الرئيس السابق صالح.
ولكن بعد أن تلاشى أملها باقتحام صنعاء واستعصاء هزيمة الحركة الحوثيين وتيقنها بخذلان حلفائها بالسلطة المعترف بها، والتي يشكل حزب الإصلاح “إخوان اليمن” القوة الكبرى فيها فقد طفقت الرياض بتغيير موقفها لمصلحة الجنوب وعلى حساب الشمال الوحدوي، بحسب الفهم الجنوبي.
ولتفكيك هذا الاشتباك والتداخل بالفهم إزاء الموقف السعودي لدى الطرفين، نقول: إن كِلا الطرفين على حق في فهمهما لهذا الموقف المتضارب، وهو الموقف الذي أرادت السعودية أن توصله لهما كما ظهر لهما، لتفوز برضائهما وموقفهما معاً. وهو المستحيل بعينه بالطبع، (فمن يخدم سيدين يكذب على أحدهما)، كما تقول العرب.
فهي وأن استطاعت أن تخدع الكل لبعض الوقت فلم تعد اليوم بمقدورها أن تخدع الكل أو حتى البعض لكل الوقت، فالشواهد اليوم تشي بذلك من الطرفين على شكل حالة تذمر وسخط نخوبي وشعبي، وفقدان عامل الثقة بها وبمواقفها المتضاربة.
فالحقيقة أن السعودية مع الكل وضد الجميع، هي ليست مع وحدة اليمن، التي تحققت عام 1990م، ولا هي أيضاً مع إعادة الوضع إلى ما قبل ذلك التاريخ.
هي لها مشروعها الذي يتجلى ملامحه كل يوم، مشروع يتكيف مع مصالحها ويتطوع كُلياً لمصلحة مخططاتها، يمن لا هو موحد ولا ممزق بالكامل، يمن عوان بين ذلك، بحيث يكون فيه الشمال والجنوب على السواء تحت السيطرة والاستكانة وإضعاف كل منهما بالآخر ليسهل بالمحصلة النهائية إخضاعه وامتصاص برتقالته حتى الجفاف.
يمن يتم تفصيله على مقاس الجلباب الخليجي بالضبط، ليتسنى لها أي السعودية الاستحواذ عليه وعلى قراره الوطنية والسيادي وعلى طاقاته وموقعه الجغرافي الحيوي تحت ذريعة محاربة المدّ الإيراني وخرافة استعادة الشرعية اليمنية إلى صنعاء، هذه الشرعية الزئبقية التي استثمرت السعودية اسمها وما تزال إلى أبعد مدى. يمن ليس له علاقة بوحدة 90م، ولا حتى بوحدة 94م التي أفرزتها حرب ذلك العام. كما أنه يمكن أن يكون يمناً لا ممزقاً على الطريقة الصومالية إلى حد يصعب لملمة شتاته والسيطرة على مقدراته أو يتحول إلى طوفان بشري وقبلي وفكري وعسكري مريع على التخوم الجنوبية للمملكة، خصوصا وأن اليمن والشمال على وجه الخصوص بات يختزن كم هائل من الضغينة على السعودية جرّاء الجراح الأليمة التي طالته بالصميم خلال خمسة أعوام حرب مدمرة؛ بل يمن متماسكا إلى درجة لا تجعله قوياً يستعيد توازنه وكيانه، ولا خائر القوى ورخو البنية إلى درجة التفتت، يمن يظل في غرفة العناية المكثفة برعاية سعودية، ولها فيه ما يحلّي ويسلّي ويعشّي الحمار، كما يُقال.
- نقلا عن الأيام