إستراتيجية طهران في حوار الحوثيين والمملكة
تشكل الحرب في اليمن، واحدةً من أهم النماذج التي يمكن تدريسها في مجال العلوم السياسية كنموذج على دور التدخلات الخارجية في زعزعة الأمن والاستقرار، سواء داخل دولة، أو على مستوى الأمن والسِّلْم على المستوى الإقليمي والدولي.
بل إنه، ومن خلال الصيرورات التي أفرزتها سنوات الأزمة والحرب التي تعاني منها اليمن؛ فإننا يمكننا القول بكل اطمئنان، إن الأزمة الحالية في اليمن، تعود إلى عوامل خارجية؛ حيث يظل اليمنيون في غالبيتهم، خارج نطاق الصراع المسلح الحالي؛ وهنا لا نقف على عمليات انتقام، أو قتل على الهوية الطائفية أو القبلية أو الحزبية، كما رأينا في سوريا، أو في ليبيا، من جانب الشعب اليمني نفسه، وإنما تتم هذه الأعمال من جانب قوى سياسية ونخبها المسيطرة كالحوثيين مثلاً.
ولقد مرَّت الأزمة اليمنية بمحطات أساسية، أهمها في العام2011م؛ حيث الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، و2014م و2015م اللذان شهدا الانقلاب العسكري الذي قامت به جماعة الحوثي على ترتيبات العملية السياسية المتفق عليها في المبادرة الخليجية، في سبتمبر 2014م، وفي الحوار الوطني اليمني، ثم الحرب التي بدأها التحالف العربي بقيادة السعودية بدءًا من مارس 2015م.
وطيلة السنوات الماضية، كانت إيران أحد أبرز الفاعلين الخارجيين في اليمن، ووفق تقارير وأدلة وشهادات عدة لها مصداقيتها؛ فقد كان التدخل الإيراني يتم إما بصورة غير مباشِرة، من خلال وكلاء – وهذه سوف نعود لها لاحقًا بشيء من التوضيح – أو بصورة مباشرة، من خلال إرسال أسلحة وخبراء عسكريين وأمنيين إيرانيين، إلى اليمن.
وفي نقطة الوكلاء؛ فإنه أول ما قد يتبادر إلى الذهن هو جماعة الحوثي الموالية لإيران، إلا أن وكلاء طهران في اليمن لا يقتصرون على جماعات يمنية، وإنما كذلك تتدخل إيران في اليمن من خلال وكلاء خارجيين، مثل “حزب الله” اللبناني.
وهذه النقطة ليست من نافلة القول، وإنما هي من الأهمية بمكان في صدد أكثر من أمرٍ مهمٍّ، منها توصيف حقيقة الموقف في اليمن، وخريطة القوى الفاعلة في المشهد اليمني، وبالتالي، تحقيق فهمٍ أفضل للموقف، وبالتالي، تحسين القدرة على التعامل معه.
ومن ضمن أهم ما يؤشِّر إليه هذا الأمر، هو تعقيد الموقف فيما يخص طريقة تعاطي المملكة العربية السعودية – الطرف الفاعل الأهم الآخر في الأزمة اليمنية – مع الملف اليمني، مع كون وجود وكلاء غير يمنيين، وبالذات “حزب الله” في الصورة، يكشف حقيقة وحجم المخطط الإيراني في اليمن، والتي تعد المملكة المستهدَف الأكبر به، ضمن التنافس الإقليمي بينها وبين إيران، وضمن المشروع الإيراني لتصدير الثورة إلى دول الجوار.
كذلك، فإن وجود “حزب الله” في الموضوع، قد حوَّل الأزمة والحرب في اليمن إلى سياق آخر إقليمي ودولي، مع دخول أطراف أخرى يمثل لها الحزب أهميةً أو تهديدًا لمصالح أمنها القومي، وعلى رأسها إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة.
وزاد من حجم التدخل الإقليمي والدولي لهذا السبب، وغيره، أن الإدارة الأمريكية قد وضعت أولوية لسياساتها الخارجية، ما يصفه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وأركان إدارته، بالتصدي للنفوذ الإيراني، وتقييد يد طهران في دعم الإرهاب في الشرق الأوسط.
صراع إقليمي
وبالتالي؛ فإن الأزمة اليمنية تتحمل في الوقت الراهن أعباء الكثير من الأزمات والقضايا التي تتصل بالموضوع الإيراني في أطرافه الأخرى؛ حيث يمكن القول إن الأزمة والحرب الراهنة في اليمن، تختزل صراعًا إقليميًّا ومشهدًا دوليًّا أكبر بكثير من حيز النطاق الجيوسياسي للدولة اليمنية.
وثمَّة حقيقة مهمة أخرى ينبغي إدراكها قبل الانطلاق في تحليل المشهد الحاصل في اليمن لجهة الدور الإيراني، وهو أن التدخل الإيراني في اليمن ينطلق من أكثر من منطلق، ولا يقف عند مستوى نقطة الصراع الإقليمي على النفوذ مع السعودية، وإنما الأمر يتصل بصميم المشروع الإيراني الشامل في المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى شرقًا، وحتى المغرب العربي وغرب أفريقيا غربًا.
مثلما لا يُعدُّ التدخل الإيراني في اليمن بدعًا من الإستراتيجية العامة للدولة الإيرانية، وواقعه عبر التاريخ الطويل للإمبراطورية الفارسية؛ فإنه كذلك لا يختلف في آلياته عن الآليات التي يتبناها النظام الإيراني في تثبيت نفوذه الإقليمي.
وأول حقيقة ينبغي إدراكها في هذا الصدد، هو أن إيران من خلال إدارتها لملف الحرب في اليمن، وتوظيفها لجماعة الحوثي لا يهمها مستقبل الدولة اليمنية أو وقف إطلاق النار بالشكل الذي يحقق النواحي المتعلقة بالاعتبارات الإنسانية على الأرض؛ حيث إن إدارة ملف الحرب في اليمن، رهينٌ لدى طهران بأمرَيْن.
الأمر الأول، هو تمكين الحوثيين بأية صيغة من الصيغ التي تضمن سيطرتهم على الوضع في اليمن، ولو كان الثمن هو اللجوء إلى خيار تقسيم البلاد، وقبل ذلك المراوغة مع السعودية عبر حوار الثعلب الماكر.
الأمر الثاني، هو إدارة ملف الحرب بالصورة التي تتفق مع ملف العلاقات التنافسية التي تحولت إلى علاقات صراعية صريحة في السنوات الأخيرة، بين إيران، وبين المملكة العربية السعودية.
أي أن معالجة ملف الحرب في اليمن، رهين بتحقيق تطور إيجابي في العلاقات الإيرانية السعودية، وبطرح الأمم المتحدة والأطراف الدولية لمعالجة للأزمة لا تستثني الحوثيين، بل وتعطيهم اعترافًا ووجودًا سياسيًّا نافذًا.
وهناك تجربة شبيهة بذلك في لبنان؛ حيث إن “حزب الله”، هو من بين أبرز عوامل الاستقرار السياسي والأمني الهش حاليًا في لبنان، وذلك لأن هناك معادلة سياسية تضمن له السيطرة والنفوذ والحفاظ على بنيته التحتية العسكرية واللوجستية، وبذلك؛ فإنه من مصلحته، ومن مصلحة إيران، أن تستمر هذه الحالة من الاستقرار في لبنان.
وهو ما تم بالفعل برغم سنوات الحرب الأهلية السورية الطويلة، وما أدت إليه من فلتان أمني على الحدود، وسيطرة جماعات دينية راديكالية استهدفت عبر السنوات التي تلت الغزو الأنجلو أمريكي للعراق في العام 2003م، الوجود الشيعي في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والحدود العراقية الإيرانية، وانفلات لقبضة السيطرة السياسية السورية على الوضع في لبنان.
وبدا جوهر ذلك في “الحرب الخاطفة” – لو صحَّ التعبير – التي شنَّها “حزب الله” في بيروت وبعض مناطق جبل لبنان، في مايو من العام 2008م، خلال أزمة قرارَيْ مجلس الوزراء اللبناني بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بـ”حزب الله”، وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي، المقرب من الحزب، العميد وفيق شقير.
هذه الحقيقة أدركها حتى خصوم الشيعة التقليديين في لبنان، وهم الموارنة، وكذلك حتى حلفاء الرياض القدامى في “تيار المستقبل”، أكبر التيارات السُّنِّيَّة في لبنان، فتحالف ميشيل عون، زعيم “التيار الوطني الحر” الماروني، مع “حزب الله”، ولما بدأ سعد الحريري زعيم “تيار المستقبل” في أن ينحو إلى ذات الاتجاه؛ تعطلت العلاقات بينه وبين الرياض لمستوى أن وصل إلى درجة الحديث عن اختطافه في السعودية، في مايو 2018م.
وهنا تلعب شخصيتان من خارج إيران دورًا في رسم مسارات ذلك في اليمن. الشخصية الأولى، هي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والثانية، هي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ووزير الدفاع السعودي؛ حيث كلاهما – لاعتبارات مختلفة – يفضِّل وضعية الأزمة مع إيران، وبالتالي؛ لا يمكن – بالاستنباط المنطقي البسيط – تصوُّر تراجع إيران عن التدخل في الحرب في اليمن بكل الوسائل.
ومن بين أبرز وسائل التدخل الإيراني في الشأن اليمني، هو الدعم العسكري والاستخباري، ويشمل ذلك، الدعم اللوجستي – بالأسلحة والمعدات – وكذلك التدريب والمعلومات، إضافة إلى التخطيط السياسي، وإدارة الحوار سواء في ستوكهولم الذي نجحت فيه بالمراوغة وإنقاذ الحوثيين من هزيمة محققة في الحديدة، أو فيما يخص بالحوار الذي يجري الآن بين الحوثيين والمملكة العربية السعودية.
حوار الثعلب الماكر
عندما أعلن مهدي المشاط رئيس أعلى هيئة سياسية لدى الحوثيين، في منتصف سبتمبر 2019، عن هدنة من طرف واحد وقبلت بها السعودية، كانت هذه هي الرسالة الأولى للعالم أن الحوثيين هم دعاة سلام عبر مسرحية هزيلة صنعتها إيران وصدقها البعض، بينما على أرض الواقع عملوا على تغيير المناهج الدراسية، واخذوا حرية في التنقل والحشد العسكري، وحفر الخنادق، وتنفيذ هجوم كبير على القوات المشتركة في الحديدة، وصل بهم الأمر إلى تنفيذ عرض عسكري مهيب وسط العاصمة اليمنية صنعاء.
المبادرة التي أطلقها الحوثيين، هي جزء من خطة إيرانية بعيدة المدى، فهدوء الجبهات، تمنح إيران بتقديم المزيد من الدعم العسكري واللوجستي للحوثيين، بينما تعطي الحوثيين استراحة للاستعداد هذه المرة لاستعادة ما خسرته في معركتها مع اليمنيين، ويتوقع أن يكون ذلك قريبًا.
الحوار الذي تجريه السعودية مع الحوثيين إن صحت تلك التسريبات، فهذا أمرٌ جيد ربما للمجتمع الدولي، لكنه يكشف حقيقتين، الأول فشل للتحالف العربي، والثانية إعلان إنهاك سعودي، ويسعون بحسن نية لوقف الحرب، وإن كان ذلك واقعًا، لابد أن يكون الحوار فيه نوع من الاحترافية، خصوصًا وأنها تحاور جماعة مراوغة وتنفذ خطط إيران في كيفية التغلب على التحالف العربي، تمهيدًا لمرحلة قادمة يتحدث بها الحوثيين، أنهم لن يقفوا إلا في مكة المكرمة، بعد أن تنهي الحرب في اليمن بأي شكل من الأشكال.
إن كان هناك حوارًا حقيقًا بين السعودية والحوثيين، فلا مشكلة في ذلك لدى اليمنيين، وإنما الخشية من أن تنخدع السعودية بالحوثيين، وتمنح اليمن على طبق من ذهب لإيران من غير قصد، فالحوثيين سيقبلون على الأقل بشرط سعودي مثلا أن يتخلوا عن إيران.. سيقبل الحوثيين ذلك مقابل شروط أخرى بأن تدعم السعودية التوجه الطائفي الحوثي في اليمن تحت بند دعم “الزيدية” مثلاً.
تساؤلات!
تسعى السعودية في حوارها مع الحوثيين، أن تطلب من المليشيا الإعلان على الملأ عداوتها لإيران، من باب الانسلاخ منها، حفظًا لوجة المملكة، لكن إن قبل الحوثيين ذلك، وسيقبلون لؤمًا، هل ستعود اليمن على أقل تقدير إلى ما قبل 2011 بالتنوع الطائفي والقبلي والمناطقي، أم أن الاتفاق سيكرس لإنشاء حزب الله آخر تحت بند حماية الحدود السعودية.. ( ومِنْ مَن الحماية)!
هل سيقبل الحوثيين أن يندمجوا بين الشعب اليمني، أو أن الاتفاق سيمنحهم السلطة المطلقة للتحكم في نظام الحكم في اليمن، ويجعلهم في مرتبة الإله وبقية اليمنيين مجرد عبيد؟
هل سيكون الاتفاق على أن تكون اليمن نظام اتحادي جمهوري إقليمي، أم أن الاتفاق والمراوغة سيمنحهم نصيب حزب الله في اليمن وإنشاء مرجعية شيعية حالها كحال العراق وإيران، وهل نسمي ذلك انسلاخ حوثي من إيران؟!
وبينما الآن التسريبات تتحدث عن أن هناك حوار جدي بين الجماعة الحوثية الموالية لإيران وأن الأمور وصلت إلى مراحل متقدمة والاتفاق على طي صفحة هادي، فإن أدوات الحوثيين في اليمن تتحدث عن نصر لها على التحالف العربي، وهي بذلك تكشف عن وجهها الحقيقة المطلقة من ذلك الحوار أو التسريبات.