انتفاضة شعبية تنقذ مأرب من السقوط دون استغلال حكومي

على عكس الانتفاضات الشعبية أو الثورات السلمية التي اندلعت قبل عشر سنوات تطالب بإسقاط الحكومات والرؤساء، اندلعت في اليمن مقاومة شعبية جديدة مسلحة ضد الحوثيين، تسعى لوقف الهيمنة الحوثية على معظم أرجاء اليمن، بل وربما قد تكون سببًا في إسقاطها حال استغل التحالف العربي والحكومة اليمنية لذلك.

ونتيجة لإخفاق القوات الحكومية اليمنية في استعادة الأراضي اليمنية والتوجه الدولي لشرعنة الحوثيين، من خلال التصريحات الأخيرة التي أشارت إلى إمكانية الاعتراف بمن يسيطر على الأرض، اندلعت الأسبوع الماضي مقاومة شعبية مسلحة في محافظة البيضاء (جنوب شرق صنعاء)، كبدت فيها الحوثيين خسائر كبيرة في العتاد والأرواح، وحققت انتصارات كبيرة لم تحققها الحكومة اليمنية منذ دخولها المفاوضات مع الحوثيين.

ومنذ الوهلة الأولى من انطلاق الانتفاضة الشعبية المسلحة في محافظة البيضاء، تساقطت المواقع الحوثية سريعًا، وحققت المقاومة هناك انتصارات غير متوقعة، ما يعيد الذاكرة إلى سرعة انتشار القوات المشتركة في الساحل الغربي وتحقيقها انتصارات سريعة وصلت إلى وسط مدينة الحديدة في نهاية 2018 قبل أن يتدخل المجتمع الدولي لوقف المقاومة من استكمال تحرير ذلك، وهي تشير إلى هشاشة الحوثيين العسكرية.

ورغم هشاشة الحوثيين العسكرية وعدم قدرتهم على مجاراة أي عملية عسكرية من هذا النوع، فإن ذلك يثير العديد من علامات الاستفهام، عن عدم حسم القوات الحكومية والتحالف العربي المعركة عسكريًا منذ ست سنوات، وكذلك أسباب إعادة الحوثيين سيطرتهم على مناطق كانت قوات التحالف العربي قد حررتها (نهم والجوف ومناطق واسعة في مأرب).

وقبل الخوض في قراءة التفاصيل السياسية والعسكرية وأبعاد وتوقيت اندلاع هذه الانتفاضية الشعبية المسلحة ضد الحوثيين، لا بد من تسليط الضوء على محافظة البيضاء وأهمية موقعها الإستراتيجي للحكومة الشرعية وكذلك للحوثيين.

من الممكن أن تستمر هذه الانتفاضة حتى وصولها إلى صنعاء، في حال غيرت الحكومة اليمنية من إستراتيجيتها في التعامل مع الانتفاضات الشعبية أو القبلية التي تقوم بها القبائل من حين إلى آخر

تكمن أهمية محافظة البيضاء أنها تتوسط 8 محافظات، هي: مأرب وشبوة وأبين ولحج والضالع وإب وذمار وصنعاء، خمس من تلك المحافظات محررة، ومنها يجري التقدم في جبهات البيضاء حاليًّا لتحريرها والوصول مباشرة إلى صنعاء وذمار.

وتضم المحافظة 19 مديرية، وتقع إلى الجنوب الشرقي من العاصمة صنعاء، وهي من المحافظات الرافضة وغير الحاضنة للحوثيين، وتوجد فيها مقاومات محلية في عدة مديريات تقارع الحوثيين منذ العام 2015.

تحقيق التقدم في هذه المحافظة يعد تطورًا إستراتيجيا بكل المقاييس، فمعركة البيضاء هي من ستحدد خريطة الحرب مستقبلًا لما تتمتع به المحافظة من موقع إستراتيجي يتوسط البلاد، وهذا الموقع هو ما يجعلها تلعب دورًا حاسمًا في تطورات الحرب في اليمن.

توقيت الانتفاضة

حينما التقط الحوثيون الرسائل الدولية وخصوصًا رسالة المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيموثي ليندر كيينج، والخارجية الأمريكية، والسفير البريطاني في اليمن مايكل آرون، بأهمية الحسم العسكري على الأرض، وشنوا هجومًا كبيرًا على محافظة مأرب شمال شرق (آخر معاقل الحكومة اليمنية في الشمال)، وحققوا تقدمًا كبيرًا نحو مركز المحافظة، وسط قلق شعبي يمني كبير، جاءت الانتفاضة الشعبية في محافظة البيضاء لتبعث أمل جديد للشعب اليمني وتؤجل الزحف الحوثي نحو مركز المحافظة النفطية والغازية.

سمحت الحكومة اليمنية والتحالف العربي للمجتمع الدولي، وخصوصًا المبعوث الدولي إلى اليمن مارتن غريفيث، بأن يحول الحوثيون إستراتيجية المفاوضات من التفاوض على انقلاب الحوثي على الشرعية اليمنية، إلى التفاوض بوقف الزحف نحو مأرب، وكأن مأرب دولة مستقلة لا علاقة لها باليمن أو المرجعيات الدولية (المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ونتائج الحوار الوطني وقرارات مجلس الأمن الدولي)، وهو ما كاد يغير المعادلة العسكرية والسياسية برمتها لصالح الحوثيين.

الانتفاضة في محافظة البيضاء، أثبتت هشاشة الحوثيين، وتخاذل الحكومة الشرعية، وتؤكد أن توحيد كافة المكونات السياسية اليمنية سيكون سببا في إسقاط الحوثي

ونتيجة للموقف الدولي والتحالف العربي، شعر الحوثي بالقوة، مثلما شعر اليمنيون أنه سيتم تسليمهم للحوثي، لقمة سهلة، وهو ما يعني، تغيير الهوية اليمنية والدينية ونشر التشيع والفوضى وإعادة اليمن إلى عصر الإمامة، الذي يفرز الشعب على أساس سادة وعبيد، ومن هنا كانت الانتفاضة المسلحة كخطوة من خطوات النضال التحرري من الجماعة.

غيرت هذه الانتفاضة المفاهيم الدولية، رغم أنها لا تزال تنظر إلى نتيجتها، وما سيترتب عليها، لتتحرك على ضوئها، إن كانت لصالح الشعب اليمني أو لصالح إيران ومليشياتها في المنطقة، وتعد هذه المرحلة مهمة، كونها تعيد قراءة المشهد اليمني من المجتمع الدولي وعدم إمكانية إرساء السلام دون حل عادل وشامل للقضية اليمنية.

البعد السياسي

لا يمكن الحديث أن الانتفاضة الشعبية المسلحة التي اندلعت في محافظة البيضاء، تأتي ضمن ترتيبات سياسية، بهدف الضغط على الحوثيين للقبول بأي تسوية سياسية، فربطها بذلك يفقدها الحماس الشعبي والنفير القبلي والمساندة المجتمعية لهم، رغم ما تحقق خلال فترة الانتفاضة بمراحلها الأولى وربطها بأي عملية سياسية هو ضرب من الخيال.

ما يحصل في البيضاء هو “انتفاضة شعبية مسلحة طبيعية، بعد سنوات من الظلم والقهر والتسلط الحوثي بحق أبناء محافظة البيضاء، ومن يقاتلون اليوم لا علاقة لهم بالسياسة، وهم مجموعة يمنيون شردهم الحوثي من منازلهم وقراهم لمدة سبع سنوات، وسكنوا الجبال والوديان، واستعادوا قراهم ومنازلهم رفقة قبائلهم المجاورة، لذلك لا يمكن أن يقبلوا بدعوات المجتمع الدولي لوقف الحرب والعودة لطاولة الحوار، قبل أن يتم تحقيق أهداف الانتفاضة وهو تحرير المحافظة برمتها”.

رغم محاولة الحكومة اليمنية أو القوات الحكومية ربط ما يجري في محافظة البيضاء بالعملية العسكرية التي تقول إنها تقوم بها، فإن الواقع يكشف أن من يقاتلون في تلك الجبهة لا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع اليمني، وإنما هم مجموعة قبلية محلية، تساندهم قبائل مجاورة لمحافظة البيضاء، إضافة إلى القوات المشتركة الموجودة في الساحل الغربي، وإلصاق تلك الانتفاضة بالحكومة اليمنية، قد يعمل على إفشالها نتيجة لتدخل المجتمع الدولي خلال الفترة القليلة المقبلة.

معركة البيضاء هي من ستحدد خارطة الحرب مستقبلا لما تتمتع به المحافظة من موقع استراتيجي يتوسط البلاد

ورفضت قيادات في محافظة البيضاء والمقاومة الشعبية، الأنباء التي تتحدث أن الجيش اليمني يقاتل مع المقاومة الشعبية ودعته مرارًا إلى إشعال الجبهات أو دعمها لكن ذلك قوبل بالرفض، وفقًا لتصريحات محافظ البيضاء اللواء الركن ناصر السوادي.

وفي حال سيطرت عليهم المقاومة الشعبية، فإنها ستشجع على اندلاع مقاومات أخرى، في محافظة ذمار (جنوب صنعاء)، ومحافظات أخرى تحت سيطرة الحوثيين، لكن الأخيرين، عندما يجدون أن الأمر بدأ يفلت من أيديهم، سيلجأون لمراوغتهم المعروفة، بدعوتهم للسلام والقبول بالجلوس مع الحكومة اليمنية على طاولة المفاوضات بهدف تجزئة الحلول السياسية، كما حصل في محافظة الحديدة عام 2018.

البعد العسكري

من الناحية العسكرية، تمثل محافظة البيضاء أهمية إستراتيجية جغرافية، نتيجة لارتباطها بالعديد من المحافظات اليمنية الشمالية والجنوبية، المحررة منها وتلك التي يسيطر عليها الحوثيون، فالسيطرة عليها تمثل نقطة تحول في المعارك، وستمثل قوة دفع كبيرة للحكومة اليمنية أو المقاومة الشعبية للانطلاق شمالًا نحو العاصمة صنعاء.

تقع محافظة البيضاء وسط اليمن وتتصل بثماني محافظات (صنعاء ومأرب وذمار وإب والضالع ولحج وأبين وشبوة) ومن شأن تحقيق الانتصار والتقدم فيها وصولًا إلى استعادتها أن يمهد الطريق للتقدم صوب ذمار، والوصول إلى محافظة ذمار يعني قطع الإمداد العسكري عن الحوثيين الموجودين في محافظات أبين والضالع وتعز وإب، وسيعني ذلك سقوط أربع محافظات ذات مخزون بشري هائل دون قتال.

ولأهمية ذلك وسهولة القضاء على الحوثيين من هذه المحافظة التي قد تجفف منابع الحشد العسكري والقبلي الذي يعتمد عليه الحوثيون، يفترض على الحكومة اليمنية أن تعمل على دعم هذه الانتفاضة سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا، ومن ثم إشعال الجبهات التي سحب الحوثي منها مقاتليه، وفتح جبهات أخرى لإرهاقه وكسره وإجباره على أن يقبل بالسلام.

لكن الانتفاضة في محافظة البيضاء، أثبتت هشاشة الحوثيين وتخاذل الحكومة الشرعية، وتؤكد أن توحيد كل المكونات السياسية اليمنية سيكون سببًا في إسقاط الحوثي سريعًا وإنهاء الحرب في اليمن، على عكس الدعوات الأممية أو الدولية التي تتحدث عن إمكانية إنهاء الحرب دون حل عسكري، رغم فشلهم طيلة السنوات الماضية.

حينما يأتي الحديث عن هشاشة الحوثي (أي ضعفه)، لا بد من استدلال ذلك على مواقفه خلال هذه الانتفاضة وأسلوبه للتعامل مع الوضع القائم الذي يرى أنها تمثل تهديدًا خطيرًا على بقائه وتمدد المشروع الإيراني الذي يمثله في اليمن.

قطع الحوثي الاتصالات والإنترنت في مناطق مسرح العمليات وضخ الشائعات الكثيرة، من ضمنها تحقيقه انتصارات على المقاومة الشعبية وإنهاء الانتفاضة المسلحة، خشية من أن تمتد إلى محافظات أخرى.

وعمل على محاولة تشويه المقاومة الشعبية، حينما تحركت كل أجهزة الحوثي الأمنية والمخابراتية، وإصدارهم تارة بيانًا وينسبوه إلى القاعدة، ليرسلوا صورًا مشوهة عن المقاومة إلى الداخل والخارج، أن تلك المقاومة عبارة عن مجاميع تتبع تنظيم القاعدة وداعش، لكنهم فشلوا في ذلك وانكشف أمرهم.

ضعف الحكومة الشرعية

يفترض حينما تندلع مثل هذه الانتفاضة التي تكشف حقيقة وهن الحوثي، أن تستغلها الحكومة اليمنية في الحسم العسكري سريعًا، لكنها منحت الحوثي الفرصة الكافية للتفرغ لمعركة البيضاء وأشعلت معارك جانبيه مع المجلس الانتقالي الجنوبي وهادنت الحوثي في الجوف ومأرب، رغم الانتفاضة القبلية الأخرى (قبائل الجوف تحت سيطرة الحوثي) التي تزامنت من انتفاضة البيضاء.

أوقف الحوثي زحفه على مأرب، ليتفرغ للبيضاء، فتوقفت القوات الحكومية هناك، فسحب الحوثي عناصره من جبهات الكسارة وصرواح ومناطق عدة في مأرب واتجه نحو المحافظة التي اندلعت فيها مقاومة شعبية مسلحة، وكان يفترض على الحكومة اليمنية أن تشعل كل الجبهات.

معركة البيضاء تمثل اختبارًا حقيقيًا لجدية إنهاء الحرب، وفي الوقت نفسه تسلّط الضوء على حقائق كثيرة تتعلق بتخاذل بعض الأطراف المحسوبة على الشرعية، وعدم تحريك جبهات قانية وناطع وتعز، وكذلك إسناد قبائل البيضاء، وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة قراءة كاملة لخطط وإستراتيجية التحرك العسكري.

الخلاصة:

عندما تحركت المقاومة في البيضاء وحققت انتصارات كبيرة، توقف الحوثي عن مهاجمة مأرب والسعودية، وهذا يعني أن الحرب والحسم العسكري وحده هو من يوقف إرهاب الحوثيين، والانتصارات ستوقف الحرب في اليمن، وكسر الحوثيين عسكريًا سيقودهم إلى الموافقة على خوض العملية السياسية.

المعارك في البيضاء أثبتت هشاشة الحوثي وافتقاده للحاضنة الشعبية وإمكانية أن تتمدد تلك الانتفاضة إلى محافظة ذمار والمحافظات الأخرى، وكانت مشاهد دخول المقاومة المناطق التي تحررها تتحدث عن فرحة غامرة شعبية نتيجة تحرير مناطقهم.

من الممكن أن تستمر هذه الانتفاضة حتى وصولها إلى صنعاء، في حال غيرت الحكومة اليمنية إستراتيجيتها في التعامل مع الانتفاضات الشعبية أو القبلية التي تقوم بها القبائل من حين إلى آخر، وإن لم تغير من إستراتيجيتها واستمرت في نظراتها التآمرية، فإنها ستساهم في تلاشيها لصالح مكونات سياسية وعسكرية يمنية أخرى، حتمًا سيجمعهم في الأخير عدو واحد.


الكاتب: محمود الطاهر

عن نون بوست

زر الذهاب إلى الأعلى