مناطق النزاع العربية تدفع ثمن فشل البعثات الأممية

تدور في السودان أحاديث ساخنة ومتشعبة حول الشكل الذي ستظهر عليه بعثة الأمم المتحدة الجديدة مع نهاية مايو الجاري، وهل ستأتي بموجب البند السادس أم السابع الذي يخول استخدام القوة العسكرية.

مهما كانت النتيجة والكفة التي تميل إليها، فالقليل من السودانيين هم الذين يعولون على تأثير هذه البعثة. ففي كل الأزمات العربية التي حلت فيها بعثات الأمم المتحدة، وتزايدت في السنوات الأخيرة بحكم تنامي الصراعات في المنطقة، لم يكتب النجاح لأي منها، أو تترك ذكرى طيبة تدعم حضورها.

إذا كانت النتائج معروفة سلفا، فلماذا يرهق السودانيون، وغيرهم، أنفسهم في معرفة الفصل الذي ستندرج تحته البعثة الأممية؟ ولماذا تصر بعض القوى الكبرى على التلويح بالمراوحة دائما بين الفصلين السادس والسابع؟ وما هي العوامل التي تتحكم في اختيار المهام المنوط بها لعمليات الدعم وقوات حفظ السلام في بلدان معينة؟

تفرض الإخفاقات المتتالية لبعثات الأمم المتحدة المختلفة المزيد من التساؤلات والتكهنات والتخمينات، حول دورها في كل من سوريا وليبيا واليمن والصحراء المغربية والعراق والصومال، علاوة على قائمة أخرى طويلة تمتد إلى غالبية الدول التي شهدت نزاعات وتوترات وتتجاوز حدود المنطقة العربية والدول المجاورة لها، وكلها لم يتم فيها ضبط البعثات الأممية متلبسة بتحقيق تقدم ملموس ينهي سريعا أزمة محتدمة هنا أو يوقف نزاعا هناك.

ووفقا لتقرير ” العرب” اللندنية، يعيد الجدل الراهن في السودان وما يحمله من تفاؤل وتشاؤم، وترحيب وشكوك، ومخاوف وتداعيات، إلى الأذهان آخر حل في ليبيا عقب سقوط نظام العقيد معمر القذافي عام 2011، وما تلاه من فوضى عارمة انتشرت في مناطق عدة، ولم تتمكن بعثة الأمم المتحدة للدعم تحت قيادة ست من رؤسائها التوصل إلى تسوية تضع حدا للانفلات الحاصل في البلاد حتى الآن.

في عهد البعثات الأممية في ليبيا، خاصة الأخيرة، تضخم دور الميليشيات والكتائب المسلحة، واشتد عود المتطرفين، وتغول الإرهابيون، وتدفق المرتزقة على يد تركيا، وقبض المتآمرون على السلطة، ولم تتحرك بعثة الدعم لإنقاذ البلاد، بل استغل كل هؤلاء التقاعس الذي بدت عليه البعثة والازدواجية التي تحلى بها أعضاؤها في تكريس وجودهم، وتسربوا إلى الكثير من أقبيتها الخفية، وسخروا الإمكانيات المادية والمعنوية في خدمة أغراضهم.

ليبيا شاهدة
يمثل عجز الأمم المتحدة عن تعيين مبعوث أممي جديد حتى الآن كبديل لغسان سلامة الذي ترك مهمته، مستقيلا أو مقالا، منذ حوالي ثلاثة أشهر، أحد العلامات البارزة على الصعوبات التي تواجهها هذه النوعية من البعثات ذات المهام الدقيقة التي ترضح لحسابات القوى الدولية الفاعلة في المنظمة الأممية، وتقديراتها السياسية، بما يعني أن دورها المعلن في حفظ الأمن والسلام الدوليين يظل مجرد شعار يمكن أن تندرج تحته الكثير من المهام المراوغة.

بقي المبعوث الأممي الأخير في ليبيا، ومن سبقوه من زملائه، مرهون بتوازنات بعض القوى وما تريده من ليبيا، ولذلك كانت أعين الجميع مصوبة نحو المعادلة التي تتحكم في الأزمة، وأرهق سلامة مثلا نفسه في تفاصيل كثيرة، وسلك طرقا وعرة ومتعرجة وبعيدة عن الخط المستقيم، فلم يتمكن من بلورة التصورات الخيالية التي حملها في أجندته، وهي لا تنفصل عن فرض رؤية بعينها تتبناها أقلية على الأغلبية، ورحل الرجل دون أن يأسف عليه الليبيون الوطنيون، بينما حزن عليه من مكّنهم من التحكم في المفاصل للدولة، سياسيا واقتصاديا.

تستحق قصة الأمم المتحدة وإخفاقاتها المتتالية في ليبيا التوقف عندها بالمزيد من التفاصيل، لأنها كاشفة عن الطبيعة التي جاءت بها، والأهداف التي حملتها، والبيئة التي عملت فيها، والمكونات التي اعتمدت عليها، حتى جعلتها تنحاز إلى طرف على حساب آخر، فكان من الطبيعي أن تواجه فشلا ذريعا ومريعا، تظهر تجلياته حاليا في الفراغ الذي تعاني منه، وعدم قدرة القوى الكبرى على التفاهم حول اختيار ممثل آخر، لأن المسألة تتجاوز حدود بعثة أممية تريد السلام وكفى، وتصل إلى مستوى تحديد التوقيت المناسب.

يمكن الوصول إلى السلام بأقل التكاليف لو أن الأمم المتحدة وبعثاتها المتناثرة في ربوع العالم تريد ذلك فعلا، ولأن المهمة معقدة وتتشابك فيها خيوط كثيرة، ظاهرة وباطنة، ليس من السهولة الوصول إلى سلام شامل، وربما تفسر هذه الزاوية واحدا من الأسباب التي أفضت إلى التعثر الذي تواجهه الأمم المتحدة، ويحملها البعض وحدها المسؤولية عن ذلك، بينما العملية برمتها في حوزة قوى تتحرك تحت الطاولة وبموجب توزانات قُطرية وليست أممية.

تواجه بعثات الأمم المتحدة النشطة في سوريا واليمن ما تعاني منه في ليبيا، كما أن ما يوصف بالبعثات الخاملة نسبيا في الصومال والصحراء المغربية من المرجح أن يتكرر في السودان الذي لم يخل أصلا من بعثات على مدار العقود الثلاثة الماضية انتشرت في الغرب والجنوب من غير أن تحقق الأهداف التي جاءت لأجلها، مع ذلك هناك إصرار كبير على استكمال المهمة بصورة تتحلى برداء يتواءم مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وجعلت من السودان طرفا محوريا في مفكرة الأمم المتحدة.

يرى الكثير من المراقبين أن نجاحات وإخفاقات الأمم المتحدة والمنظمات واللجان التابعة لها، هي حاصل ضرب القوى المؤثرة في هياكلها الرئيسية، وأشكال التباديل والتوافيق التي تدور في أروقتها، وفي ظل تزايد الانقسامات وتكاثر التباينات على الساحة الدولية تتعثر الأدوار النبيلة التي تشكلت من أجلها بعثات المنظمة الأممية، ويخضع اختيار مسؤول رفيع فيها لجملة من الرؤى التي تنعكس سلبا أو إيجابا على المهام التي تقوم بها.

فرض السلام وحفظه
أصبحت غالبية هذه البعثات تقوم بمهام دبلوماسية أكثر من منها عسكرية، ولا تستطيع فرض أو حفظ السلام، ويشبه دورها السيف الذي يظل مشهرا في وجه القوى المنخرطة في الأزمات الرئيسية، تظهر منه الجولات المكوكية التي يقوم بها المبعوثون واللقاءات التي يعقدونها مع بعض الأطراف، وتختفي تقريبا الأهداف التي أنشئت بسببها بعثات الدعم الدولية، ولا تتمكن من فرض سيطرتها، وتكتفي بالتمثيل المشرف الذي لا يتجاوز الحدود السياسية البسيطة، وتتعلق بترتيب الحوارات والمناقشات، إلى أن فقدت القدرة على جلب السلام باللين أو القوة.

يفرّغ هذا الدور الأمم المتحدة من دورها كمظلة عالمية مسؤولة عن حفظ الأمن والسلام من خلال مؤسساتها الفاعلة، وهي صفة متوقعة لتلاشي القدرة على فرض تنفيذ قرارات مجلس الأمن في الأزمات الدولية، وهو ما يقلل من الأهمية التي عليها العدد المبالغ فيه لقوات حفظ السلام، وتوقفت نجاحاتها في بعض الدول الأفريقية على إرادة قوى دولية بعينها، بينما تكاد تكون هذه الإرادة غائبة تماما في الأزمات العربية، الأمر الذي يفسر الجمود المستمر في جوهر المهام، والدخول في نقاشات طويلة وعقيمة حول الشكل.

معروف أن أزمات مثل ليبيا وسوريا واليمن وغيرها، تتشابك فيها الأدوار المحلية مع الإقليمية والدولية، وتزداد مهمة البعثات الأممية صعوبة، لكن الأخطر أنها تقف عاجزة أمام الرغبات والتطلعات المنفردة لبعض القوى، وتشاهد انتهاكات من روسيا والولايات المتحدة وحتى تركيا وإيران، ولا ترى منها شيئا، أو تتخذ الخطوات اللازمة لوقف التجاوزات، وتبدو كأنها غائبة أو مغيبة، لذا يصاحبها الفشل أينما حلّت، إلى أن يحدث توافق ضمني بين القوى المتحكمة في الأزمات العربية، فتبدأ العُقد في الحل واحدة بعد الأخرى.

لن تكون البعثة المنتظر قدومها إلى السودان مختلفة عن غيرها، فإذا كان جانب من ملامح العمل، بكل سياقاته السياسية والأمنية، يتوقف على توازنات القوى الخارجية، فإن جزءا مهما يخضع لمدى ما يمكن أن تصل إليه الأطراف الداخلية من تفاهمات، وتكمن الصعوبة في فقدان هذا المحدد على الجانبين، ما يؤدي إلى تعميق الجراح التي تتسبب فيها البعثات الأممية، وليس تضميدها، كما هو متوقع.

تبدو الأمم المتحدة أمام مفترق طرق خلال مرحلة ما بعد كورونا، فإما أن تستكين للدور المتواضع الذي تلعبه حاليا وتكتفي بالمهام التي تتخذ طابعا روتينيا، وإما أن تنتفض القوى الرئيسية وتصلح منها كأداة يمكن الاحتكام إليها فعلا في حل الأزمات الإقليمة والدولية، لأن وجود قوى تقوم بدورها بالإنابة أو الموازاة، يقود إلى المزيد من الفوضى ويشعل الصراعات بدلا من إطفائها.

زر الذهاب إلى الأعلى