اليمن ما بعد كورونا
كأن الأوضاع في اليمن كانت تحتاج إلى المزيد من التعقيد كي يظهر فيروس كورونا الجديد في ذلك التوقيت، ويفاقم من معضلة الصراع اليمني. حيث كان اليمن يعاني من أوضاع متردية قبل بدء الصراع أساسًا، وبموازاة التكلفة الإنسانية التي يمكن أن يخلفها ظهور فيروس كورونا في اليمن؛ فإن الفيروس أنتج خطابًا جديدًا حول العلاقة بينه وبين الصراع، وهو ما أفضى إلى تساؤلات مرتبطة بكيفية تأثير كورونا على مسارات ومدركات فاعلي الصراع. علاوةً على احتمالات إنتاج الفيروس نافذة جديدة لمسار تهدئة محتملة للصراع، وخاصة مع دعوة الأمين العام للأمم المتحدة، التي استبقت ظهور فيروس كورونا في اليمن، أطراف الصراع للتهدئة، وإيقاف القتال للتعامل مع تداعيات فيروس كورونا، ناهيك عن مبادرة التحالف العربي يوم 8 إبريل الجاري بإيقاف إطلاق النار في اليمن لمواجهة مخاطر انتشار فيروس كورونا.
ظهور فيروس كورونا
أعلنت الحكومة اليمنية الشرعية في العاشر من إبريل الجاري عن تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا في اليمن داخل مدينة الشحر بمحافظة حضرموت. وبعد ظهور الفيروس أعلنت سلطات المحافظة فرض حظر تجوال كامل بمدينة الشحر والمناطق القريبة منها، وانتشر الجيش وقوات الأمن في الشوارع لتطبيق الحظر. كما تم إغلاق ميناء الشحر الذي يعمل به المصاب بالفيروس لمدة أسبوعين، وإلزام جميع العاملين في الميناء بالحجر المنزلي، وعدم المخالطة لمدة أسبوعين.
وفي سياق متصل، اتخذت مؤسسة موانئ البحر العربي بالمكلا عدة قرارات لمواجهة فيروس كورونا، من أهمها الحجر الصحي لمدة 14 يومًا لكل السفن الخشبية في منطقة الانتظار خارج الميناء، ودراسة إمكانية حجر السفن التجارية المدة نفسها، وإعطاء الأولوية للبواخر المحملة بالمواد الغذائية الأساسية، واعتماد العمل لمدة 24 ساعة لتسريع عمليات التفريغ.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه القرارات جاءت ضمن مجموعة من الإجراءات التي سبق اتخاذها لمواجهة تداعيات فيروس كورونا، فقد اتخذت الحكومة الشرعية قرارًا بتعليق الرحلات الجوية بجميع المطارات اليمنية، ابتداء من يوم 17 مارس الماضي، مع استثناء الرحلات لأغراض إنسانية ونقل المساعدات الإغاثية. علاوة على عدد من الإجراءات الأخرى، مثل: إغلاق الأسواق وصالات الأفراح والحدائق العامة، وتعليق كافة الفعاليات والأنشطة الرسمية، وتم تعليق الدراسة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة حتى 30 مايو 2020.
وفي المقابل، اتخذت جماعة الحوثيين بعض القرارات، مثل إغلاق مطار صنعاء أمام الرحلات الخاصة بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية لمدة أسبوعين ابتداء من 14 مارس الماضي. وإيقاف الدراسة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وتطبيق الحجر الصحي المنزلي 14 يومًا على القادمين من بعض الدول التي شهدت تفشي المرض. كما أشارت التقارير إلى إطلاق الحوثيين سراح عدد من الأسرى والسجناء في إطار إجراءات مواجهة الفيروس.
الانعكاسات على الصراع
لا تنفصل أزمة فيروس كورونا المستجد عن مشهد الصراع اليمني، حيث تبدو ثمة علاقة تأثير متبادل بين كورونا والصراع، وهذه العلاقة لا تعني، بأي حال من الأحوال، المبالغة في الحديث عن تأثير كورونا في مسار الصراع، لأنه يظل متغيرًا مفردًا يتفاعل مع معطيات الصراع ومساراته عبر رؤية فاعلي الصراع للفيروس وكيفية توظيفه. ومن هذا المنطلق، يرتبط تأثير فيروس كورونا على الصراع اليمني بعدد من الأبعاد الرئيسية:
1-معضلة الأوضاع الصحية: فقد تكفل الصراع اليمني بإنتاج مشهد مجتمعي وإنساني مأزوم تبلورت ملامحه في تدهور المؤشرات الصحية في دولة تعاني بالأساس من مشكلات هيكلية. ووفقًا للعديد من التقديرات فإن نحو 50% فقط من المستشفيات والعيادات هي التي تعمل داخل اليمن، ومعظمها يفتقر إلى الطواقم الطبية المؤهلة والأدوية. وعلى مدار السنوات الماضية تعرض اليمن لتفشي الأمراض مثل الكوليرا التي ظهرت كتهديد حقيقي لليمنيين، بعدما تجاوز العدد الإجمالي لحالات الكوليرا المشتبه بها 2 مليون و300 ألف حالة خلال الفترة من أكتوبر 2016 إلى يناير 2020. كما اكتسب مرض حمى الضنك اهتمام الكثير من المنظمات الدولية مؤخرًا على خلفية انتشاره في أكثر من مديرية باليمن، حتى إن بعض التقديرات تذهب إلى أن إصابات حمى الضنك تجاوزت 3000 شخص.
وفي سياق كهذا، يشكل ظهور فيروس كورونا، واحتمالات انتشاره داخل اليمن، معضلة جوهرية، فالبنية التحتية الصحية لن تستوعب احتمالية انتشار الفيروس، كما أن توافر المستلزمات الطبية اللازمة، ومتطلبات مواجهة كورونا، مثل توافر المياه النظيفة لكافة الأفراد، يمثل مشكلة حقيقية لليمن، خصوصًا مع قرار بعض المانحين الدوليين بخفض المساعدات لليمن نتيجة لسياسات الحوثيين العدوانية. علاوة على ذلك، فإن تزامن ظهور فيروس كورونا مع وجود أمراض أخرى داخل اليمن يضاعف من تأثير كورونا على الأوضاع الإنسانية باليمن.
2-حسابات الحكومة الشرعية: رحبت الحكومة اليمنية بمبادرات وقف إطلاق النار والتهدئة. ففي يوم 29 مارس الماضي، رحبت الحكومة بدعوة المبعوث الأممي “مارتن جريفيث” إلى عقد اجتماع عاجل يبحث وقف إطلاق النار في اليمن لمواجهة مخاطر انتشار فيروس كورونا. كما أصدرت وزارة الخارجية اليمنية بيانًا ذكرت فيه أن “هذا الموقف يأتي حرصًا من الحكومة على التخفيف من معاناة اليمنيين، ومن أجل تجنيب اليمن تبعات الانتشار المحتمل لكورونا”. ودعت الحكومة اليمنية المجتمع الدولي ومجلس الأمن إلى “الضغط على ميليشيات الحوثي للاستجابة لهذه الدعوة دون شروط مسبقة، وإيقاف خروقاتها وتصعيدها المستمر”.
3- التوظيف الحوثي للأزمة: حيث تعامل الحوثيون مع أزمة كورونا منذ بداية ظهوره في المنطقة، وحتى قبل أن تظهر إصابات بالفيروس في اليمن، على أنه فرصة لتحقيق المزيد من المكاسب، سواء على الساحة الداخلية أو الخارجية، واستمرت ميليشيا الحوثي في هجماتها حيث أعلنت السعودية يوم 28 مارس الماضي اعتراض صاروخين باليستيين فوق مدينتي جازان والرياض بعد أن أطلقهما الحوثيون من صنعاء وصعدة.
ولم يتوقف هذا التعاطي الحوثي البراجماتي مع أزمة كورونا عند هذا الحد، ولكنهم استخدموا خطابًا تآمريًّا ضد دول التحالف العربي، فالكثير من قادة الحوثيين يروجون لسردية “فيروس كورونا المُصنّع من قبل الولايات المتحدة”، وفي السياق ذاته، وفي مقابل هذا الخطاب التآمري، حاول الحوثيون تحسين صورتهم الخارجية عبر طرح مبادرة يوم 8 إبريل الجاري، قبل ساعات قليلة من إعلان التحالف العربي إيقاف إطلاق النار في اليمن، لإنهاء الحرب في اليمن، حيث قال الناطق باسم الحوثيين إن جماعته قدمت رؤية للأمم المتحدة تنص على وقف شامل للحرب وتأسيس الحوار، وتدعو الوثيقة المعلنة إلى وقف إطلاق النار، وإطلاق عملية سياسية يمنية تؤسس لمرحلة انتقالية جديدة.
4- مبادرة التحالف العربي: فقد أعلن التحالف العربي لدعم الشرعية عن وقف إطلاق نار شامل في اليمن لمدة أسبوعين اعتبارًا من يوم الخميس التاسع من شهر إبريل الجاري، وهي مدة قابلة للتمديد. وكشفت المبادرة عن سعي التحالف العربي لتخفيف حدة الصراع اليمني وتوجيه المزيد من الجهود للتعامل مع فيروس كورونا. ولعل هذا ما عبر عنه المتحدث باسم التحالف العربي العقيد الركن “تركي المالكي”، إذ أوضح أن الهدف من وقف إطلاق النار هو تهيئة الظروف الملائمة لتنفيذ دعوة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليمن لعقد اجتماع بين حكومة الرئيس “عبدربه منصور هادي” والحوثيين، وفريق عسكري من التحالف تحت إشراف أممي لبحث مقترحاته بشأن خطوات وآليات تنفيذ وقف إطلاق النار بشكل دائم، وخطوات بناء الثقة الإنسانية والاقتصادية، واستئناف العملية السياسية بين الأطراف اليمنية للتوصل إلى حل سياسي شامل في البلاد.
5- الضغوط الدولية لتهدئة الصراع: فالكثير من الدول ترغب في الوقت الحالي في تهدئة الصراع اليمني، في ظل انشغالها بمواجهة تداعيات كورونا. ومن ثم، قد تتزايد الضغوط الدولية من أجل تهدئة حدة الصراع في الوقت الراهن، وهو ما ظهر مثلًا من خلال مطالبة الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في اليمن للتعامل مع أزمة كورونا، وأكد على هذا المنحى البيان الصادر مؤخرًا من مجلس الأمن الدولي الذي رحب بمبادرة التحالف العربي بإيقاف إطلاق النار في اليمن، ويطالب كافة الأطراف بضرورة الالتزام بالتهدئة، والتواصل مع المبعوث الأممي من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع.
مستقبل الصراع اليمني
يحتمل السياق الراهن، الذي يضم العديد من المتغيرات التي لا تقتصر فقط على فيروس كورونا، سيناريوهات مختلفة لمستقبل الصراع اليمني تتراوح بين بداية تسوية الصراع والالتزام بالتهدئة، واستمرار الصراع. وبوجه عام يبدو مستقبل الصراع محكومًا بثلاثة سيناريوهات رئيسية؛ أولها استمرار الصراع بحيث لا يشكل فيروس كورونا عاملًا دافعًا لتهدئة الصراع، والشروع في تسويته. فمدركات بعض أطراف الصراع ربما لا تتأثر بأزمة كورونا، خصوصًا أن اليمن تعرض لمشكلات مثيلة وأوبئة خلال سنوات الصراع.
ووفقًا لهذا السيناريو، يستمر الحوثيون في سياسة التصعيد وعدم الاستجابة لمبادرة وقف إطلاق النار من جانب التحالف العربي، وهو ما يدفع التحالف للرد على انتهاكات الحوثيين. ولعل هذا ما ظهر مع إعلان تحالف دعم الشرعية اعتراض دفاعاته الجوية صاروخًا باليستيًّا أطلقته جماعة الحوثيين يوم 14 إبريل الجاري على مدينة مأرب.
ويرتهن السيناريو الثاني بالتهدئة المؤقتة للصراع لإعادة ترتيب حسابات كل طرف، والتعامل مع تداعيات فيروس كورونا، ولكن مع هذه التهدئة سيظل في اعتبار كل طرف أن الصراع لم ينتهِ، وأن مفاوضات التسوية النهائية لم يحن وقتها. ويساعد على هذا السيناريو طبيعة الصراع اليمني، والمراوحة المستمرة خلال السنوات الماضية بين التهدئة والتصعيد، وتعقيدات الصراع والقضايا التي تفرعت عن الصراع الرئيسي.
ويستند هذا السيناريو إلى احتمالية حدوث تغير في مدركات جماعة الحوثيين، وتخفيض حدة التصعيد العسكري لاعتبارين رئيسيين؛ أولهما أنه بالرغم من طموحات الجماعة للسيطرة على مدينة مأرب؛ إلا أن معركة مأرب لن تكون مضمونة العواقب، وستكون تكلفتها مرتفعة وستكبد الجماعة خسائر بالغة نظرًا لأن المدينة تضم الكتلة الأكبر من خصوم الحوثيين الشماليين، وعددًا كبيرًا من القوات الموالية للرئيس اليمني “عبدربه منصور هادي”.
ومن جهة ثانية، قد تشكل أزمة كورونا نقطة ضعف بالنسبة للحوثيين، خصوصًا أنها تؤدي إلى إضعاف شبكة تحالفاتهم الإقليمية، وعلى وجه التحديد إيران التي تعاني داخليًّا من تداعيات فيروس كورونا. وهو ما يعني فقدان الحوثيين مصدر الدعم الخارجي الرئيسي لهم. ومن ثم، قد يخفض الحوثيون من حدة الصراع بصورة مؤقتة لانتظار ما ستسفر عنه الأوضاع في إيران، وذلك على أمل أن تتعافى طهران من تداعيات أزمة كورونا سريعًا.
ويتعلق السيناريو الثالث والأخير، بإمكانية التهدئة الشاملة للصراع على خلفية أزمة كورونا. ويفترض هذا السيناريو التزام أطراف الصراع، خاصة الحوثيين، بمبادرة الأمم المتحدة وكذلك مبادرة التحالف العربي لإيقاف إطلاق النار، والتوقف عن التصعيد بحثًا عن إطار فعلي لتسوية دائمة ومستقرة.
ولكن يظل تحقق هذا السيناريو محفوفًا بعدد من التحديات، ربما أهمها الحاجة إلى تصاعد حدة الضغوط الدولية على الحوثيين لإنهاء التصعيد، لا سيما مع التكلفة التي يتحملها المجتمع في الوقت الراهن لمواجهة فيروس كورونا. علاوة على تراجع حسابات القوة لدى الحوثيين من زاويتي صعوبة السيطرة العسكرية على مدينة مأرب، وكذلك تنامي الصعوبات التي تواجهها طهران داخليًّا بسبب وباء كورونا، والتي على إثرها يتيقن الحوثيون من أنهم لن يحصلوا على أي دعم إيراني خلال فترة زمنية لن تكون بالقصيرة.
المصدر: المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة